الأربعاء، سبتمبر ٢٨، ٢٠٠٥

عود ملوخية


جلست فضيلة، والتي يناديها الجيران "أم أشرف" بجسمها المكتنز والجلباب الواسع على الأرض وأمامها المصفاة التي امتلأت عن آخرها بأعواد الملوخية، فضيلة طباخة ملوخية بريمو، يحلف "بملوخيتها" كل من ذاقها، وزوجها "الحاج بيومي" يتفاخر دائماً بملوخيتها التي لا تضاهيها ملوخية أخرى، حتى ملوخية الست والدته ... ألف رحمة ونور

بهدوء وتأني أمسكت فضيلة بعود الملوخية، "تخضه" برفق على باقي الأعواد لتنثر ما علق به من قطرات المياه، وبحالة صوفية تشد أوراقه ورقة ورقة وتلقيها في المصفاة، وعلى ورقة جريدة قديمة تضع الأعواد التي خلت من وريقاتها،
عود وراء عود، حتى تكومت أمامها كومة من أوراق الملوخية، وكومة أخرى من الأعواد

يخرجها طرق الباب عن عملها المقدس الذي تؤديه بتأمل وتأنٍ، ولا تتحرك فضيلة لفتح الباب، ففي القرية الصغيرة، تطرق نساء الجيران الباب ثم يدخلن، أما لو كان رجل فسيصفق ويتنحنح ويقول: "يا ساتر"

وكما توقعت فضيلة، دخلت هنية، جاءت حسب الاتفاق
تربعت هنية على الأرض بجانب فضيلة بعد أن قالت: "اصباح الخير"، مضيفة الألف في أولها والتي تفرق "صباح خير" المدينة عن "صباح خير" القرية، وفضيلة وهنية من قرية لا تقول: "العواف"، إنما تقول "اصباح الخير"

وبعد يسعد صباحك من فضيلة، والتي كانت عندها هنية قد جلست على الأرض وبدأت في "تقطيف" الملوخية مع فضيلة بدون دعوة، وكأنه الأمر الوحيد الطبيعي الذي يجب أن تفعله في مثل هذه الظروف

وبعد الانتهاء من كل الأعواد قال هنية:
يللا بينا بقى يا ختي، لحسن أنا لسة ورايا هم متلتل في البيت
فردت فضيلة:
والنبي أنا مكسوفة منك يا هنية، تاني مرة أهه أتعبك معايا في الحكاية دي في سنة واحدة

فنظرت هنية إليها بعتاب قائلة:
ما تقوليش كدة يا فضيلة داحنا عشرة عمر، من يوم ما اتجوزتي الحج واحنا البيت في البيت وانتوا أهل، طب دانا ولادك أتولدوا على يدي واحد واحد، بس والنبي أنا خايفة عليكي، ما ينفعش كدة، لازم تشوفيلك حل

تنهدت فضيلة:
مانا كل ما أقول للحج يقوللي شوفي روحك، هو فيه واحدة في سنك لسة بتحبل دانت داخلة عالخمسين، أقول في نفسي طب لما أنا داخلة عالخمسين مش تعتقني بقى، الراجل ما بيبطلش وفي الآخر يقوللي داخلة عالخمسين، مااللي في سني دي وعيالها اتجوزوا مفروض تكون استريحت من قرف الرجالة، مش خلاص، خدني صبية وخلفتله عياله، على إيه بقى فراغة العين

مصمصت هنية بشفتيها وقالت:
تقوللي إيه في الرجالة بس والواحدة هتعمل إيه، ما تقوليله تروحي الوحدة؟

فالت فضيلة:
كل ما أقوله الوحدة يقوللي الحاجات دي حرام، ويقعد يقطم فيَ ويقوللي شوفي الستات التانية بتعمل إيه

فردت هنية:
ما خلاص بقى يبقى يستحمل

شهقت فضيلة:
يستحمل؟ دانا لو قلتله إني حبلت تاني كان يدبحني أنا والعيال، ده اللقمة بالعافية مكفية، هو ياختي عايز يعمل لا مؤاخذة زي الناس وأنا ما أحبلش، وما أروحش الوحدة، طب أعمل إيه بس في روحي، 46 سنة ولسة في الهم ده

تنهدت هنية وقالت:
على رأيك ما الواحدة مننا هتعمل إيه، قومي بينا خلينا نخلص

حملت فضيلة جسدها المكتنز ومصفاة الملوخية ونادت ابنتها الكبرى "زينب":
"خدي يا بت خرطي الملوخية على بال ما أقول كلمتين مع خالتك أم محمود

ورد صوت فتاة من الداخل:
"حاضر ياما"

وخطرت المرأتان إلى داخل الغرفة الخالية فوق السطح، ومعها سحبت "فضيلة" بعض الأقمشة القديمة وأخذت هنية بعض أعواد الملوخية التي خلت من الأوراق

استلقت "فضيلة" على الحصيرة القديمة على الأرض، والتي يستعملها الحاج للجلوس على السطح في الليالي الحارة وتدخين الشيشة وثنت ركبتيها وفتحتهما بعد أن خلعت سروالها التحتي، أثناء ما كانت "هنية" ترتب الأقمشة

اقتربت هنية من رأس فضيلة بعطف وقد "لفت" فوطة على شكل مستطيل كبير، وأعطتها لفضيلة:
"عضي على دي"

وإذ جلست هنية بين فخذي فضيلة المنفرجين وبعد أن تخيرت عوداً مناسباً من أعواد الملوخية، وشعرت فضيلة بالعود يبدأ رحلة دخوله إلى جسدها فتوترت عضلاتها للحظة تحسباً للألم الذي تعرف أنه سيأتي،وعضت بقوة على المنشفة الموضوعة بين أسنانها، وإذ شعرت هنية أن ألم صاحبتها قد بدأ، طفقت تهدئها بينما تكمل عملها بدقتها المعهودة:

"خلاص يا ختي، دقيقة وهتكوني صاغ سليم"

دقائق لا يعرف عددها بالضبط لا هنية ولا فضيلة مرت، قبل أن يخرج عود الملوخية، ومعه انقباضات طردت ما كان قد احتل رحم فضيلة في الست أسابيع الماضية

كبست هنية الدم بالخرق التي جلبتها، وأعطت فضيلة كوب من الشاي الساخن، وبعض الأعشاب المسكنة، وأخذتا تتحدثان في المنمنات اليومية، والسؤال عن عريس البنت الكبرى الذي يريد أن يتزوجها ويسافر الخليج، حيث يعمل في البناء، والولد الأصغر الذي ضبطته أمه خلف الزريبة مع أقرانه، وواحد منهم قد أحضر لهم مجلة بها نساء "استغفر الله العظيم" "فعزقته من الضرب" وطردت أصحابه شر طرده

"ولا كنت أسيبهم لحد ما يعمولي الواد؟"
وبعض النميمة ، حتى استطاعت فضيلة الجلوس مستقيمة

"والنبي تعبتك معايا قوي"
"يا ختي ما تقوليش الكلام ده، أنا هأخطف رجلي أطمن عالعيال وآجي أكمل شغل البيت النهاردة معاكي، بكرة هتبقى فل، مانتي عارفة بقى هي أول مرة؟"

"من غيرك كنت هأعمل إيه يا هنية؟ ونعم الجارة والأخت"

وذهبت هنية، وعادت هنية، ودارت فضيلة في البيت ترتب هذا وتعدل ذاك، وإن كانت حركتها أبطأ قليلاً يومها، وتشرف على التفاصيل الدقيقة لحلة الملوخية الشهيرة، وتشهق إذ تضع "الطشة" التي تعدها بالكسبرة في الحلة، وتقراً كلاماً "أبيحاً" على الحلة، فهذا سر ملوخيتها الذي لا يعرفه أحد، ولا يمكن أن تتهاون في صنعتها، مع إنها "بتستحي من خيالها"

وقبل العصر تسمع حشرجة صوت الحاج وقد جاء، وتسمع صوته الأجش من صحن الدار قائلاً:
"الغدا يا أم أشرف"

"عينيا، عملالك النهاردة الأكلة إللي بتحبها، ملوخية"


19 Comments:

Blogger Amanie F. Habashi said...

رائعة وحزينة

كرهت خلاص الملوخية!!! واللي عايز ياكلها

الأربعاء, سبتمبر ٢٨, ٢٠٠٥ ٩:١٠:٠٠ م  
Blogger R said...

تحيّة كبيرة..

القصّة دي لازم تتنشر

الأربعاء, سبتمبر ٢٨, ٢٠٠٥ ١١:٤٦:٠٠ م  
Blogger لـيـلـيـت said...

ايه
؟؟؟؟؟؟
ايه ده كله
كنت هقولك اه طبعا لازم تتنشر
بس بعد كده قلت ما هى منشوررة أهى فى أحلى مدونة
تحفة تحفة تحفة بجد
هى دى القصص ولا بلاش
بس معلومة جديدة ليا على فكرة
شكلى لسه خام

الخميس, سبتمبر ٢٩, ٢٠٠٥ ٣:٠٩:٠٠ ص  
Blogger Na22ash said...

اصباح الخير :) أتابع بصمت تدويناتك أنتي و باقي أصدقائك، بس بصراحة التحفة دي مايتسكتش عليها... أحييكي و أشكرك بشدة

الخميس, سبتمبر ٢٩, ٢٠٠٥ ٢:٣٢:٠٠ م  
Blogger سؤراطة said...

إيه كل ده :))؟

أنا شاكرة ومذهولة (بتسكين الواو)! ا

الخميس, سبتمبر ٢٩, ٢٠٠٥ ٦:٣١:٠٠ م  
Blogger أحمد said...

حلوة اوى ... عامله زى لوح لوسيان فرويد

الجمعة, سبتمبر ٣٠, ٢٠٠٥ ١١:٠٢:٠٠ ص  
Blogger Pianist said...

رائعة
او اكثر قليلا
انا كنت اقرأ قصة عالمية
مش قصة عابرة
ونهايتها قاسية اوي
ومشبعة
اشكرك

الجمعة, سبتمبر ٣٠, ٢٠٠٥ ٣:٠٩:٠٠ م  
Anonymous غير معرف said...

حزينة قوي وبجد انا بكيت وانا بقراها... هايلة

السبت, أكتوبر ٠١, ٢٠٠٥ ٣:٢٨:٠٠ ص  
Blogger Solo said...

بجد بجد حاجة عالية أوي
عندك استعداد كام في الميه أحول القصة دي سيناريو روائي قصير و نتناقش فيه سوا بحيث يتنفذ كفيلم؟ مش هنختلف في الماديات ولا ايه.... فكري بجد و
انا مستني ردك

الأحد, أكتوبر ٠٢, ٢٠٠٥ ١:١٩:٠٠ ص  
Anonymous غير معرف said...

سؤال يا سقراط ... هي القصة دي حاجة جاية من الواقع و لا من بنات أفكارك ... علشان لو في حاجة زي كدة بتحصل في بلدنا!!! ... خلاص مش عارفة أكمل

الأحد, أكتوبر ٠٢, ٢٠٠٥ ٩:٤٦:٠٠ ص  
Blogger ايمان said...

حزينة و صريحة و بتقول حاجات كتير
لسة فيه حد مقتنع ان الستات خدوا كل حقوقهم و زيادة
لسة فيه حد مقتنع ان الستات بتتعامل كبني ادمين و ليس فقط كبيت للولد

الأحد, أكتوبر ٠٢, ٢٠٠٥ ١١:٢٩:٠٠ ص  
Blogger حـدوتـة said...

جميلة يا سقراط :)

الأحد, أكتوبر ٠٢, ٢٠٠٥ ١:١٦:٠٠ م  
Blogger Lilli said...

Shockingly, disgustingly true :( it is popular among women in the country side & who knows where else!

الأحد, أكتوبر ٠٢, ٢٠٠٥ ١:٤١:٠٠ م  
Anonymous غير معرف said...

مسخرة، بجدّ مسخرة.
بس أنا عندى سؤال، هو الكاتب "سقراط" هو راجى سقراط أم شخص آخر أنثى سقراط؟

الثلاثاء, أكتوبر ٠٤, ٢٠٠٥ ١١:٣٢:٠٠ ص  
Blogger سؤراطة said...

يا جماعة أنا متشكرة جداً!

ده مديح كتير قوي ... حاجة مفرحة جداً إن القصة وصلت العقول - والقلوب - للدرجة دي

أنا مبسوطة بده جداً

المعلقة المجهولة: طبعاً القصة نفسها من بنات أفكاري ولكن عملية استعمال عود الملوخية في الاجهاض وقيام النساء بذلك مئات المرات في اليوم ليس من بنات أفكاري - هناك طرق كثيرة أخرى طبعاً، ولكن ربما تكون هذه الأكثر انتشاراً

ابليس: ماهو "لوح لوسيان فرويد؟"

سولو: افتح الميل بتاعك :))

المعلق المجهول: الكاتب ليس راجي سقراط (على حد علمي :))، سقراط مجرد اسم حركي للكاتبة :))

أشكركم كلكم تاني: "أبهجتم أيامي!"

الثلاثاء, أكتوبر ٠٤, ٢٠٠٥ ٥:٠٤:٠٠ م  
Blogger Guevara said...

بجد أسلوبك عالي جداً .. و ممتع جداً

الأربعاء, أكتوبر ٠٥, ٢٠٠٥ ١:٤٢:٠٠ م  
Blogger Nightlegend said...

حسيت فيهابشجن غريب وحاجة كدة زى لمحة حزن سريعة ,بس فى اخر القصة كنت مبتسم.
برافو عليكى وتحياتى

الخميس, أكتوبر ٠٦, ٢٠٠٥ ٦:١١:٠٠ ص  
Blogger Unknown said...

ملوخيه بالحيوانات المنويه

الخميس, ديسمبر ١٢, ٢٠١٣ ٢:٣٠:٠٠ م  
Blogger Unknown said...

حلوه اووي براڤو عليكي

الخميس, سبتمبر ١٧, ٢٠٢٠ ١٢:٥٢:٠٠ ص  

إرسال تعليق

<< Home

<
eXTReMe Tracker
Office Depot Coupon Codes
Office Depot Coupon Codes