الثلاثاء، أبريل ٢٢، ٢٠٠٨

كود بلو


مهداة لروح "عاصم" الذي لا يُعرف اسمه الحقيقي حتى كتابته

اليوم فقدت عذريتي الطبية وحضرت أول "كود بلو"، ما معناه مريض يحتاج إلى إنعاش. لم تكن مفاجأة إن هذا المريض هو واحد من العمال الذين يسقطون يوميا من فوق السقالات، ولكن عاصم كان سيء الحظ إلى حد إنه لم يستطع حتى أن يقع تحت يد دكتور علي الملقب – من قبلي – بالقوة الغاشمة. لم تكن بعاصم أي علامات حياة حين أتى إلى الطوارئ محمولا على يدي اثنين يعملان معه في نفس الموقع ولا يعرفان اسمه حتى، لا مهندس ولا مدير مشروع ولا إسعاف ولا أي شيء من هذا القبيل. عينه اليمنى متورمة جدا والدم ينزف من رأسه كله، من أنفه وأذنيه: ليست بعلامة جيدة على الإطلاق. يضع طبيب الطوارئ يده على صدر عاصم ما إن يدخل إلى الطوارئ فوق النقالة ويعلن "كود بلو". كود بلو يعني أن يتوجه أطباء وتمريض الحالات الحرجة للطوارئ لمحاولة إنعاش المريض. ما كان حظ عاصم سيكون أفضل لو كان قد وصل للمستشفى بين الحياة والموت، فالفوضى التي تم بها هذا المدعو "كود بلو" تدعو لليأس والرثاء. أطباء وطبيبات وممرضون وممرضات لا يعرفون كيف يؤدون إنعاش القلب ولا متى يبدلون أدوارهم. "كراش كارت" – عربة الإنعاش – ليس بها قطن ولا شاش ولا مدخل وريدي. تزاحم مرعب حول سرير عاصم وأناس يصطدمون ببعضهم البعض ويبحثون عن طريقة لنقله. كود بلو!

في خضم هذا التزاحم والفوضى وبينما لا أشارك في محاولة إنعاش عاصم وأهمس لطبيب الطوارئ: "ليس هذا إلا تدريب على جثة". لهذا – أشارك في تدليك القلب "بقلب جامد". إلا إنه في فترات ابتعادي خلف الجماهير أتأمل وجه عاصم. وجه مصري صميم، لعامل من عمال البناء، عمره 21 عاما ليس إلا. تملكني عجب شديد لهذا السلام المعدي الذي يعلو وجهه الراقد أمامنا وقد أقحمت فيه أنابيب التنفس وتورمت عينه اليسري جدا ودمه مازال يسيل من كل ما يمكنه من فتحات رأسه. تصف كتب الطب الشرعي ذلك السلام الذي يعلو الوجه عند الموت، إلا إن شيئا لا يعدك لتراه. من ذاك الذي قال إن شكل الجثث مرعب؟ لقد كان ذلك الشاب المسجى محطم الجمجمة نازفا أكثر الوجوه التي شاهدتها في حياتي سلاما على الإطلاق. أعرف من البداية إن الأمل في إنقاذه منعدم لإنني كنت سألت من أتوا به عن ساعة وقوعه تحديدا فأخبروني إن ذلك كان قبل ساعة. مع تكسر قاع جمجمته وكل تلك الحركات غير المحسوبة التي تعرض لها كانت فرصته في الإنعاش تشبه فرص إحياء السرير الذي سجي عليه هادئا، مسالما، مستسلما تماما بينما تقوم الدنيا حوله وتقعد بأقصى إنعدام ممكن للكفاءة. أشعر ببعض الرطوبة على ساقي لأكتشف إن دمه قد أغرق أسفل بنطالي وصندالي المفتوح بالإضافة للمعطف الأبيض. الدم ليس دافئا إنما فاتر. ليس من الحكمة أن ترتدي صندالا مفتوحا في مشفى.

أدخل إلى الحمام قذر الرائحة وأضع ساقي كلها تحت الماء والصابون وأتركه يجري مدة طويلة حسب الإجراءت المتبعة في حالة التلوث بالدم. أمسح ساقي وحذائي بالكحول وأكتشف إن رائحة الدم خانقة جدا.

بعد أن يعلن الطبيب المسئول وفاته أدخل وراء الستار لأتأمله للحظات. ما زالت ملامح وجهه المسالمة المرتاحة تأسرني. أرفع يده التي سقطت إلى جانب السرير. أتأمل يديه ورجليه اللتين تنتميان بلا شك لعامل مصري: متسخة ومتشققة، يرتدي فانلة شبه مهترئة ويربط بنطاله الذي يبدو واسعا جدا بالنسبة لجسده الصغير بسلك كهرباء بدلا من الحزام. بعد ساعات ألاحظ سلك الكهرباء هذا ملقى على الأرض عند باب الطوارئ.

يضع التمريض قطن وشاش في أذني عاصم وفمه وأنفه الذي ما زال ينزف من كل مكان. يثبتون رجليه في بعضهما ويعقدون يديه فوق صدره. ألاحظ حين أرفع رأسه جرح غائر بأعلى الرأس. أفكر في القاعدة التي تقول إن عشرة بالمئة فحسب من جرائم القتل تكتشف. أتساءل عن إمكانية أن يكون عاصم ضحية جريمة وليس مجرد سقوط عرضي. أظل أتأمله حتى يغطون وجهه بالكامل بالشاش والقطن، ثم يغطونه بالملاءة. ألاحظ إن كل هذه الاحتياطات لم تمنع دمه أن يستمر في النزف وينسال أسفل سريره.

كان على عاصم طبقا للقانون أن يظل في مكانه ساعتين بعد إعلان وفاته موصولا بشاشة قياس النبض وضربات القلب والأكسجين في الدم، وهو أحد الإجراءات المتبعة للتأكد من حدوث الوفاة. نغلق عليه الستار الرفيع ونبدأ في الحديث في محاولة أن نجعل الأمر يبدو طبيعيا. تحضرني بقوة قصة قصيرة ليوسف إدريس يحكي فيها عن حوار يدور بين طبيب وممرضة بينما ترقد جثة قتلها جراح مغرور بغروره في نفس الغرفة. لا أستطيع إزاحة القصة عن فكري. ربما لإن التشابه كان مفزع ورائحة الدم السائل أسفل السرير، ما لا يقل عن ثلاثة لترات، خانق.

أعود للبيت وعاصم في فكري لا أستطيع أن أزيحه: لا هو، ولا عبثية موته المبكر، ولا وجهه الذي يحمل سلاما سماويا لا يصدق. لا أستطيع أن أزيح من فكري أيضا إنه بلا اسم، مات بين الغرباء. مات لإنه عامل بناء أفقر من أن يكون في عمل بأدنى مستويات الأمان الشخصي.

لم يكن هناك من أحد لعاصم. أمشي مسافة طويلة على النيل أفكر فيه. حين أعود للبيت أوقد له شمعة وأقرر أن أتركها تنطفئ وحدها. هاهي شمعة حياته أمامي. أضع يدي عليها لدقيقة إكراما له لإنه مات وحيدا، بالرغم من إن وداعة وجهه الذي ودع كل ما حوله من ضجة وفقر وعمل غير آدمي يجعل الموت يبدو أكثر إغراءا من الحياة، ويفقد ما تبقى من الخوف منه. أفكر فيما إن كان من المحتمل إن روحه كانت تحوم حول فوضانا حول سريره وتبتسم بوداعة غير عابئة ولا مهتمة – لا أستطيع أن أتخيله يبتسم ساخرا من محاولاتنا البلهاء. السلام المرتسم على وجهه ليس سلام روح من الممكن أن تسخر.

تكاد شمعة عاصم تنطفئ. عاصم الذي قد يكون أحمد وقد يكون هاشم وقد يكون عبد البر وقد يكون وليد أو هو في الحقيقة كلهم. لن أنام قبل أن تنطفئ أمامي شمعة عاصم. لا أود أن أتركه يموت وحيدا مرة أخرى.

0 Comments:

<< Home

<
eXTReMe Tracker
Office Depot Coupon Codes
Office Depot Coupon Codes