مازوخية النخبة أوسياسة حسنة قليلة مقابل 30 عاماً من سياسة البنية التحتية
تجسد شخصية "عاصم السلحدار" الشاب الثري المنحدر من أسرة من الطبقة المصرية العليا وقتها في مسلسل ليالي الحلمية عقدة انتشرت على ما يبدو بكثافة ما هذه اﻷيام عقب مقال شحاذة على أرواح "الفقراء" من الشهداء يصل لهدفه بإشعارك بالذنب (ﻻ أعرف كيف عرف كاتب المقال إن من ذكرهم "فقراء"، فليس كل من يسكن حي شعبي "فقيراً"). عاصم الثري المرفه متأفف من ثراء أهله بعد أن ضيع كل ثروته وعاش عالةً عليهم ثم أصبح شيوعياً واختلط قليلاً بعمال المصنع في صورة نمطية جداً للشيوعي الثري الذي يسب كل الرأسماليين من حوله ثم يجلس على موائدهم ويأكل بالشوكة والسكين ثم يصرخ في وجوههم: "الفقراء أوﻻً يا وﻻد الكلب". نظراته يملأها الزهق والتأفف منهم ومن بيوتهم وطعامهم وغباؤهم السياسي.
اليومين دول كلما نظرت حولك في الفيسبوك أو تويتر أو المناقشات العامة وجدت ناس زهقانة هنا وهناك، ناس بتستخدم مقوﻻت نيتشة وروسو وجيجيك بل وأحياناً مقاﻻتهم الخاصة بتبقى على مستوى عالي من التحليل والنقد - مقاﻻت ومقوﻻت ﻻ يستطيع ثلثي الشعب المصري على أقصى التقديرات تفاؤﻻً فهمها ناهيك عن اهتمامه أصلاً بذلك - يظهرون تأفف شديد من النخبة وعمايلها السودة وابتعادها عن واقع الشعب إل ماشي في الشارع يمد إيده طالب حسنة مش دستور وكلام فارغ. يفهم إيه الفقير المتخلف ده إل بيجري ورا شنطة رمضان في الدستور؟ الدستور ده بتاع النخبة وزي ما قال اسمه إيه الفقراء أوﻻً يا وﻻد الكلب.
قضيت بعض الوقت صدقاً مشغولة ألملم من هنا ومن هناك تعريف شتامين النخبة للنخبة ولوﻻد الكلب المذكورين وانتهيت إلى أن كل من مستخدمي الكلمتين من محيطي المتواضع، إل معظمه بيعرف روسو ونيتشه وجيجيك بل وقرأوا لهم أيضاً وليست مجرد معرفة سطحية، معظم هؤﻻء ﻻ يعتبر نفسه نخبة ولديه تعريف معين للنخبة ﻻ يماثل بالضرورة تعريف اﻵخر الذي يشاركه الشتيمة وكلهم بالطبع ﻻ يعتقدون إنهم من وﻻد الكلب المقصودين، هم فهم أبعد ما يكونون عن ذلك، فهم مع الفقراء قلباً وقالباً، أولئك الفقراء الأغبياء الذين ﻻ يفهمون في الدساتير، بعكس النخبة - التي يبعد المتكلم دائماً نفسه عنها - التي تفهم في الدساتير وعايشة متنغنغة وبالتالي ﻻ يهمها الفقراء وﻻ شنطة رمضان. يهمها الدستور.
أعراض الزهق والملل من النخبة ومناقشاتها المطولة تظهر في "ستاتوس" متأفف أو نوت يحمل شعوراً بالذنب من مناقشة دساتير بينما العيال مش متغطية بالليل وكإن العيال مش متغطية ﻷن في نخبة مرفهة عايزة دستور.
ﻻ أنكر إنني أشعر باﻻندهاش. أوﻻً ﻷن الكثيرين قرروا التحدث باسم الفقراء بدون مناسبة وكأن الفقراء في مصر انخرسوا بينما كل صاحب احتياج معيشي هو اﻷعلى صوتاً اﻵن، ثانياً، قرر هؤﻻء المتحدثين إن الفقير بالتبعية غبي وجاهل، ﻻ يمكن يفهم حقيقة أساسية مفادها إن الدساتير هي إل بتحمي الحقوق وهي إل بتأكل الناس وتغطيهم وتعالجهم في المستشفى وغالباً مش هتنفع معاه مجهودات التوعية السياسة إل خُصِصت لها مجهودات كثيرة من بعد الثورة، ﻷن هذا الفقير الغبي الجاهل ﻻ يعرف ما نعرفه وﻻزم اﻷول نديله شنطة رمضان وبعدين نشوف موضوع الدستور.
أما السبب الثالث وهو أكثرها تعليقاً لحواجبي إلى فوق فهو: محدش من المنظرين فهمنا أثناء تنظيره يعني إيه "الفقراء أوﻻً"؟ يعني نعمل إيه؟ وزي ما سألت على تعريف النخبة وما لقتش إﻻ 2 أو 3 عندهم استعداد يجازفوا بتعريف، سؤالي النهاردة: "تقصد إيه تحديداً يا أي حد متبني عبارة (الفقراء أوﻻً)" وإيه علاقة ده أو تناقضه مع اختيار وضع دستور قبل انتخابات نيابية أو رئاسية؟وﻹضفاء مزيد من التشويق على اﻻختبار هأضطر أسأل اخوتي المازوخيين من الطبقة المتوسطة والعليا إن وجدت في وسطي: إيه تعريفك للفقير؟ في مصر وبفضل 40 سنة من اﻹفقار المنظم أصبحت لدينا ألواناً من الحاجة وأنماطاً اجتماعية ﻻ تتفق والصورة المعتادة عن المعوزين ﻷساسيات الحياة فالكثير ممن قد تطبق عليهم ما تعتقده صفات تتبع "الفقير" حظي بتعليم بل وربما قرأ مثلك روسو ونيتشة وجيجيك بالرغم من أن مرتبه ﻻ يكفيه حتى آخر الشهر وحذاء جديد يعتبر من رفاهيات الحياة بالنسبة له وبالخصوص مع هبوط الكثيرين من الطبقة المتوسطة إلى الطبقة المعوزة.
ثم ارتفع حاجبي الشمال وحده في نظرة تآمرية حين تذكرت ثلاثين عاماً من الخطب تحرمنا الحياة السياسية والحرية وﻻ تتحدث إلا عن "محدودي الدخل أوﻻ" و"محدودي الدخل في قلب سياسة الحكومة". فاتخضيت خضة جامدة، فمحدودي الدخل دي اﻻسم الكودي "للفقراء" في عصر مبارك وآخر عصر السادات، وإحنا، نفس الناس إل كانت بِِتنظر قبل الثورة كنا بنقول إن الفقر سببه الفساد السياسي... يا نهار أسود! عملنا ثورة وخلعناه عشان نقول إل كان بيقوله. "محدودي الدخل اﻷول"، الدساتير والحياة السياسية بعدين بعدين. يا فرحة أبلة ظاظا فينا.
واندهاش على اندهاش بقى، أنا مستغربة المنظرين إل كانوا مستنيين كل المعطيات الفكرية في مصر تتحد وتتحل تاني يوم الثورة ونبقى كلنا أصحاب أولويات واحدة وصاحب اﻷولوية التي تخالفنا مش بيفهم إن "الفقراء أوﻻً" ﻷنه ابن كلب مرتبه بيكفيه وعنده فائض من الوقت يوجهه للتفكير والتمييز ويقراله كتابين ودي طبعاً حاجة مافيش أي فقير بيعملها ﻷن الفقير بالتبعية متخلف وما بيقراش وبالتالي ما بيفهمش أما إل بيقرا ده فمش حاسس بإل نايمين في الشارع. كإن ثلاثين عاماً كانت أقل مما يكفينا عشان نفهم إن الجياع جياع بسبب فساد الحياة السياسية مش عشان مافيش فلوس. فجأة، 80 مليون وحبة أصبحوا غير كافيين لتوزيع المجهودات ما بين اﻻنقاذ العاجل لحالات تحتاج لذلك اﻵن وحاﻻً والتخطيط لحياة سياسية مستقيمة ﻻ يقل اﻻحتياج إليها عُجالة أبداً. بعد قليل سيصبح الكلام عن حقوق اﻹنسان رفاهية ﻻ يحتملها "الفقراء" الذين ﻻبد أن يكونوا أوﻻً حتى نصبح وﻻد ناس مش وﻻد كلب، بعدها سيصبح الرد على حق من ماتوا دهساً ورصاصاً وتعذيباً: الحي أبقى من الميت، الفقراء اﻷحياء أوﻻً، ما تبقاش ابن كلب بقى، بعدها ريما يصبح ما تفعله منى سيف وقورة راسها في الشمس أمام س28 مش وقته خالص، إل جوة مش فقراء وممكن نستنى عليهم شوية، هما مش بيأكلوهم في السجن يعني؟ وجيش المحامين والنشطاء ده يروح يشوف موضوع الفقراء أوﻻً، إنت عارف السجناء دول بيضيعوا وقت ومجهود كام واحد وكام مكتب وكام جمعية أهلية؟ هييييه! نجح المثقفون في إنقاذ مصر من ثورة جياع أكيدة، يالله بقى نفاجىء التاريخ ونخليها بمزاجنا ثورة جياع. ثم سيقول لك أحدهم: "الثورة أوﻻً"!! يعني إيه يا ابني الثورة أوﻻً؟ يخرب بيوتكوا بجد بقى جبتولي صداع، هي الثورة دي متعلقة في الهوا؟ هي "أوﻻً" دي شعار المرحلة؟ في التحرير اتعلمنا نقف طابور وعلى ما يبدو خرجنا من التحرير عايزين طابور تاني وﻻزم نحط فيه حاجة "أوﻻً". محدش سمع عن الخطوط المتوازية؟ محدش له شوق في محاور متعددة في نفس الوقت خصوصاً وإحنا أكتر من الهم ع القلب وكل نشاط في الدنيا عندنا له تسعين جمعية تشد حيلها وتشتغل؟
عزيزي النخبوي المتأفف من نخبويتك، عزيزي الشبعان الشاعر بالذنب عشان الطفل الشحاذ إل بيخبط على زجاج عربيتك المكيفة ويقوم بالحركة الشهيرة رافعاً يده إلى فمه: لو ما عندكش تعريف لمشروع "الفقراء أوﻻً" امشي من وشي الساعة دي.(كُتِبَ هذا المقال كله بدافع من الصداع ليس إﻻ)
0 Comments:
إرسال تعليق
<< Home