التعذيب كله لا يسقط بالتقادم ولا بالتبرير
لا ينصح بقرائتها لم يرغبون في دفن رؤوسهم في الرمال أو الطمي أو أي نوع من أنواع التربة.
عدت للتو من الميدان الطاهر، ميدان التحرير، سكوير دو ليبراسيون. هذا هو الوضع الآن في الميدان الطاهر، ميدان التحرير، الذي لم يطأه إلا من قام باختيار الأصعب مفضلاً إياه عن الأسهل، هذا هو الوضع في الميدان الذي اشتريناه بالدم لنثور على داخلية تعذبنا ونظام يقهرنا. اللجان الشعبية التي تسمي نفسها "لجان تأمين الميدان" وليست لدي فكرة من أسند لها هذا الدور، تقوم بدور الشرطة النظامية وليس بدور شرطة "شعبية". وهي تتشعب وتتوغل وتتنتشر بشكل سرطاني ويدور الكثير منهم في الميدان قائمين بدور: بطاقتك يا كابتن لمجرد إن شكلك مش عاجبهم واسألوا محمود عزت، وتستمد إلهامها من داخليتنا المجيدة.
خيام مخصصة للتحقيق ولتعذيب المقبوض عليهم في أي "جرائم تعتبر ها"لجان الأمن" جرائم تستحق العقاب، التسليم للنيابة يعتبر خيارغير مطروح إلا بعد ضغط مكثف على ما يبدو. بعد الحادثة الشهيرة لتعليق اثنين عرايا في الميدان بعد الضرب المبرح أقنعهم أهل الخير في الميدان أن يعذبوهم في الدرى، بعيداً عن الأعين. في خيام "داخلية الميدان" يوجد أناس تتدلى من أعناقهم مربعات من الورق المقوى تعبر عن انتمائهم للجان "تأمين الميدان". تتكرر حوادث التعدي على وتعذيب "المشتبه بهم" و"المقبوض عليهم" حسب ظروف الميدان كل يوم. ويبدو لي أن أحداً لا يعباً، كأنه أمر بسيط وسيمر. ولكنه لن يمر يا أسيادنا في الميدان.
شاءت الصدف السعيدة أن أشهد اليوم القبض على "بلطجي" اتضح بالكشف عليه إنه مجرد متعاطي يقوم بأفعال تدل على مرض نفسي مثل وخز أحدهم بطرف زجاج مكسور، وخلع ملابسة كاملةً أمام النساء في وسط الميدان، لا يحمل سلاح سوى قطعة زجاج مكسورة. تبعته إلى خيمة "التعذيب" وقلت الكلمتين الشهيرتين "إل هيمد إيده عليه هيضطر يضربني قبله". يحاولون إخراجي بكل الطرق: "أصلنا هنقلعه هدومه عشان نفتشه"، أرد بالبجاحة المعتادة: "أنا دكتورة تحب أفتشهولك أنا؟" تبدو مسالك التخلص مني مسددة. استنجد بكل من أعرفه من الحقوقيين في الميدان، يأتيني اثنين ، أحدهم لا يهتم إطلاقاً بالموضوع والآخر يهتم بشدة ويحاول التوفيق للوصول لحل يحول دون تعذيب شخص كل خطئه في الأغلب إنه فصامي أو مصاب بشكل من أشكاله. تصرخ فينا "داخلية الميدان" بأننا "بتوع حقوق الإنسان" السبب في دخول البلطجية إلى الميدان وإنهم يعانون في لجان التفتيش. (ما تسيبوها؟ لماذا تطوعتم إذن؟ لتكونوا داخلية حبيب العادلي داخل الميدان دون الحاجة إليه؟).
الفتى مقيد من معصميه إلى "أمين شرطة ميداني" من "أمن الميدان". حين نحل معصميه أجد تقرحاً مكان القيود وجرح مفتوح في ذقنه يبدو أنه كان مخيطاً ولكن نزعت بشكل ما. أفهم من "خيمة التعذيب" إنهم قبضوا عليه وقيدوه أكثر من مرة قبلاً بسبب أفعاله. لاحظ إنه لم يعتد على أحد بالشكل الخطر أو حتى ربع الخطر. يشكون مر الشكوى من "بتوع حقوق الإنسان" إل مش فاهمين إن حقوق الإنسان دي للإنسان "البريء" مش المذنب" (شقيتوا قلبي الله يسامحكم، بعد كل ده؟)
تتعالى الأصوات داخل الخيمة وهذا لمصلحتنا، حتى يتجمع الناس ولا تبتكر أساليب تعذيب في الخفاء. ما بين هلوسة الفتى وتعنيف الناس له ومحاولتي تشخيصه نصل لحل إيداعه مستشىفى نفسي، نحاول نقله بالطريقة السليمة فيدخل شيخ ملتحي ليجذبه من قميصه، فأقول له "بالراحة يا شيخ" فيرد: "لو شفتك هنا تاني هأكسر رجلك بإيدي عشان ما تدخلش الميدان ده تاني". يتطوع أحد الجدعان بعد أن زعق قائلاً: "يعني إيه ما يستاهلش إلا القتل؟ مش بني آدم ده، هو أنت عشان لقيت حد يربيك خلاص هتحاسب خلق الله الغلابة إل لقوا نفسهم في الشارع؟" أستبشر خيراً وأرسله معه وآخر لإيداعه مركز الطب النفسي بجامعة عين شمس (ولهذا قصة أخرى). في خيمة التعذيب التي كنت فيها كان هناك شاب آخر مقيد تحت دعوى إنه يتاجر في الترامادول وإنهم نصبوا له كمين وأحدهم اشترى منه، فقاموا بتكسير طاولة عصير المانجو بحثاً عن "أحراز" وهي الأحراز التي سألتهم عليها أكثر من مرة ولم تظهر. يا خوفي أن تكون حرزت على طريقة الداخلية. أعرف أن هناك خيمة "داخلية" أخرى داخل الميدان ولا أعرف ماذا يحدث فيها. سادتي من منظمي الميدان. هناك داخلية متوحشة تتكون داخله ولو لم نتصرف بسرعة ستتلوث أيدينا جميعاً.
لقد اكتمل الميدان: فيه مستشفى وكهربائي وسباك وإنترنت ومنصات وحكم ذاتي وداخلية وتعذيب وسخرية من فكرة حقوق الإنسان مثلما كان تفعل داخليتنا بالضبط. الخطوة القادمة هي أمن الدولة. هذا ليس ميداني. ميداني خالٍ من التعذيب. لم يحرك أحدهم جبنتي فحسب، بل تتركها تتعفن. وداعاً يا ميدان يا طاهر. أرضك الطاهرة اتلوثت بالتعذيب والتعذيب لا يسقط بالتقادم. لو كنت أعرف كنت قبلت كل حتة فيك وكل واحد فيك في الـ18 يوم. الناس بتخانق على إنه ده ميدانها. أنا عرفت النهاردة إن ده مش ميداني.
التسميات: تحرير، تعذيب
9 Comments:
يا جين. يعجبني ما كتبت من ناحية نقد الذات علنا. وتعجبني تجربتك التقدمية في التحرير والتدخل فيما يجري وهو ما يساهم بالتأكيد في صياغة ميثاق غير مكتوب للتحرير، وأخلاق للتحرير، وثقافة للتحرير، وإستراتيجية للتحرير.
ما لم يعجبني هو التطهرية والطوباوية وعدم الوعي بأن هذه عملية نقد ذاتي طبيعية، ومساهمة طبيعية متوقعة في إصلاح ما أفسده الدهر في مجتمع ما بعد مبارك. فلا التحرير كان في الـ18 يوما التي يتركز حولها كل حنينا وطوباويتنا الآن خاليا من التعذيب أو الغوغائية ولا من المعقول أن نتوقع أصلا بفرض هذا أن نستمر طويلا دون أن نكتشف أننا وكما يقول الإعلان الشهير كنا "جزءا من النظام" ولا أجهزة أمن مبارك والسادات وعبد الناصر هي كل أصول التعذيب وانتهاك حقوق الإنسان في مجتمعنا - ولا ينطوي قولي هذا على أي تخفيف أو تبرير أو تمييع إذا كنت مضطرا للتوضيح. التعذيب في البيت والمدرسة وفي أفكارنا عن العالم الآخر كما أنه جزء أساسي من فكرتنا عن تقويم المنحرفين والمجرمين سواء بخلفية دينية أم بدونها.
أرجو بقليل من التروي وإعادة النظر أن تصلي إلى حقيقة أن الميدان لا يزال ميدانك والتحرير تحريرك. وإلا فإنه لم يكن كذلك في أي يوم من الأيام ولن يكون. وربما لا تحرير لك على هذه الأرض.
طبعا كلام جميل وصحيح فعلا الأمور بتتطور بشكل سيء
لكن البدائل ايه ؟
مفيش
طبعا اكيد شوفتوا موضوع الست اللي بتسرق الأطفال الصغيرة
وموضوع البنت اللي جاية رافعة يافطة وتقول انا عايزة ابقي مسلمة وبيمنعوني
دي كلها محاولات لإفشال الاعتصام بالإضافة لكدة في مداخل الناس اللي عليها عاقلة وهادية بصراحة الشباب اللي كان واقف عند محطة المترة امبارح الأحد عند الجامعة الأمريكية كانوا مستفزين كدة وبالرغم من أنهم مبيوجهوش الكلام لشخص بعينه كنت حعمل مشاجرة معاهم لولا اني كبرت عقلي ومشيت عاملين زي البلطجية بالظبط .. أم الشركات .. أم المترو مفيش حد يعدي ولا يفتح لو مش عاجبهم كلام مش منطقي يعني
اللجان زي الداخلية لازم وجودها من غير ما تعدي حدودها
مش فاهم ليه نبرة الحدة والتصنيف الموجودة في المقال؟
وليه تشكي في ان فعلا تباع مخدرات هناك؟
وليه تشكي في الناس اللي بتأمن المكان..من أن في لحظة ممكن عرضك ينتهك من واحد مختل أو بيدعي انه مختل؟
لو حضرتك شفتي شخص زي ده قاعد مع بنتك المراهقة أو الطفلة هاتتصرفي ازاي؟ هاتطبطبي عليه؟ وللا هاتطرديه خارج مدخل البيت؟
لا تحاولي إقناعي إنه في وسط ميدان وظروف تحتاج لسرعة القرار ومن متطوعين مجهدين طوال اليوم يجب أن نطالبهم أن يكونوا أطباء نفسيين ومحللين اجتماعيين ويتعاملوا معاملة لم يروا مثلها أصلا في حياتهم!!!!
أرجو ألا نمارس دور ندعي به البطولة والإنسانية على بقية الناس حتى لا يكرهوننا ولا نجد بينهم مكانا ولا ترحابا بعد ذلك.
وحقيقة لا أريد ممارسة نفس دورك في الطعن في الناس واتهام الذات!! بوجود خيمة تعذيب! في الميدان!
طيب وهل هذا الوصف صحيح؟ وهل هذا الوصف يخدم الميدان وسمعته والثورة؟
هل لمجرد أن يقيد مجرم - أو حتى مريض نفسيا كما تقولين لكنه مؤذ للآخرين!!!! - من يديه يكون اسمه تعذيب؟
ويصبح الخيمة اسمها خيمة التعذيب؟
ما هذا المنطق في وصف الأمور؟
لو حضرتك فعلا طبيبة كنت استعملتي المنطق والمنهج العلمي في وصف الأمور وتقديرها، وليس في سلخ الذات وفتح أبوابا لا تنتهي لشهية الثورة المضادة التي تتمنى أن تقرأ هذه الأوصاف والتعبيرات التي لا تصب في مصلحة الثورة ولا ميدان الثورة ولا من فيه، بما فيهم حضرتك
بدوره من الخطيئة. ملكوت السماء في متناول اليد.
الله يحبك. قراءة الكتاب المقدس.
تحية طيبة
أقوم بإجراء دراسة عن المدونين فى مصر فى إطار رسالتى للماجستير ،وأتشرف بإضافة مدونتكم فى عينة المدونات الخاصة بى ، وأرجو من سيادتكم تزويدى بعنوان البريد الالكترونى للإجابة عن استمارة الاستقصاء ، وسيكون لكم جزيل الشكر على تعاونكم واهتمامكم ، وأتشرف بالرد على أى استفسار بخصوص طلبى .
مع شكرى للاهتمام والتعاون مرة أخرى
bloggingsurvey@yahoo.com
مها بهنسى المعيدة بكلية الإعلام-جامعة القاهرة
شكرا علي المجهود
تحية طيبة
أقوم بإجراء دراسة عن المدونين فى مصر فى إطار رسالتى للماجستير ،وأتشرف بإضافة مدونتكم فى عينة المدونات الخاصة بى ، وأرجو من سيادتكم الإجابة عن استمارة الاستقصاء المرفقة بالرسالة ، وسيكون لكم جزيل الشكر على تعاونكم واهتمامكم ، وأتشرف بالرد على أى استفسار بخصوص طلبى .
https://docs.google.com/spreadsheet/viewform?formkey=dExYMDRfQ1dfVzl1WWxjakdfQ1llbFE6MQ
مع شكرى للاهتمام والتعاون مرة أخرى
bloggingsurvey@yahoo.com
مها بهنسى المعيدة بكلية الإعلام-جامعة القاهرة
شكرا على الموضوع
إرسال تعليق
<< Home