الثلاثاء، نوفمبر ٠١، ٢٠١١

صفرلي يا علاااااااااااااااااء

(أعيد نشرها عن أول ما قالوا يا حبس أصحابنا. نشرت أولاً بتاريخ 9 مايو 2006)

يا علااااااااااااء





أحاول أن أتذكر صاحب المكالمة التي أبلغت فيها باختطاف علاء ولا أستطيع. تبدأ المكالمات المتبادلة كما هو متوقع. منال صوتها متماسك بالرغم من أثر البكاء فيه. الساعات الأولى ومحاولة التأكد من أسماء المختطفين، ثلاث فتيات مختطفات من مظاهرة للمرة الأولى منذ بداية التظاهر. أبكي أحياناً وأتعامل مع الموقف بعملية أحياناً أخرى. مظاهرة أمام نقابة الصحفيين في السابعة. أثناء رحلة الذهاب أشعر بعجز وخوف شديدين فأهاتف ألِف المجتمع مع أصدقاء كي أقضي معهم بعض الوقت بعد المظاهرة. المظاهرة محاطة بعدد من جنود الأمن المركزي أقل من المعتاد مؤخراً وعدد من الرتب أكثر من المعتاد وقوفاً خلف صفوف الجنود. أنزعج كالعادة من الهتاف ضد الرأسمالية والعولمة في الوقت الخطأ. أسأل عن منال التي بقيت في البيت لإدارة الموقع وبعض المهام الأخرى. الدكتورة ليلى تبدو متماسكة أيضاً. الأستاذ أحمد سيف يتحدث عن علاء وعن باقي المعتقلين على السواء. أتذكر دعابة بيني وبين علاء حين كنت أقول له: "من مميزات معرفتك إنك بتحطني في مواقف بالكامل جديدة علي". كنت أضحك. موقف آخر جديد علي، طرف فيه علاء. صديق قضيت الوقت في بيته والآن هو في محبسه بينما أمه التي طلبت من الضباط اعتقالها معه في الصباح وأباه الناشط السياسي الذي تعرض للاعتقال سابقاً متماسكين يتعاملان مع الموقف كأن كل المعتقلين علاء.

أجلس على الأرض بجوار ألِف بينما يحاول تصميم اللافتة التي ستوضع دعماً لعلاء. نفاضل بين المواقف المختلفة لعلاء في الصور المتاحة: علاء مهندس الكمبيوتر


أم علاء الانسان مداعباً أماني طفلة الشارع،


أم علاء يخرج لسانه لأمن الدولة

وصورة شاعرية جداً لعلاء على النيل تحت أضواء القاهرة في الليل.

يستبعد ألِف صوراً غير واضحة وصور أخرى لا تصلح، نستعرض في الطريق الأخبار التي نشرت عن الاعتقالات.

وينتهي اختيار ألف للصورة الرائعة لمنال وعلاء معاً وعليها كلمات: "خلوا علاء يرجع لمنال". يبدع ألِف كالعادة


أمام نيابة أمن الدولة الساعة الثانية عشر ليلاً، بعض رفقاء المعتقلين وبعض من عائلاتهم. المحامين في الداخل معهم. والدة احدى المعتقلات تبكي على الرصيف. الموقف كله يتأرجح بين البكاء والفكاهة والثبات وادعاء الثبات. على الكمبيوتر المحمول لمحمد سمير أشاهد صور جديدة لعلاء، أوضح بكثير من تلك التي كنا نبحث فيها ألِف وأنا.

الشارع محاط بالكامل بالحواجز المعدنية الخاصة بالمرور. فجأة تظهر فتاة أنيقة داخل سيارة تحاول عبور الشارع. تخرج من السيارة وتطلب من الجنود أن يفسحوا الطريق لها لتمر، ينظر الجنود لها باستغراب. تتحدث بتحد مع ضابط. تقرر إيقاف السيارة في شارع آخر وتعود على قدميها لتحاضر الجنود وضباط حديثو الرتب حول خطأ ما يفعلونه. تخبرهم إنهم بهذا الشكل يشجعونها على الوقوف معنا. أحد الضباط المسئولين في ملابس مدنية يسألها عما تريد وإن كانت قد نجحت في ركن سيارتها. نجيبه نحن إنها تسأل عن أسباب احتلالهم للشارع. ضابط برتبة نقيب يبدو صغير السن (رتبة النقيب تسمى حالياً "جراج الضباط" إذ يبقى فيها الضابط في الظروف الطبيعية حوالي اثنتي عشرة عاماً)، يقول للفتاة الأنيقة: "انتوا إللي بتضطرونا نعمل كدة عشان بتجروا على الناس" أو شيء من هذا القبيل. أدير وجهي الناحية الأخرى وأتسائل: "جاي مع مين بتاع انتوا إللي بتضطرونا تعملوا كدة ده؟". رغم ذلك يدهشني فارق المعاملة من الضباط حول المحكمة مقابل المعاملة في المظاهرات وكلمات: سامي سيدهم: "لو ما اتربتوش مالكوش عندي غير كعب الجزمة القديمة" تدوي في أذني. أنظر إليهم فأتسائل – لأسباب شخصية بحتة هذه المرة – هل هم حقاً مختلفون عن أولئك الذين يحيطون بالمظاهرات أم إنهم فقط ليسوا "مأمورين" بقمعنا في هذه اللحظة بالذات. أحار في الإجابة.

يخرج المحامون ومعهم الأستاذ أحمد سيف والد علاء الناشط اليساري القديم ويخبروننا بما هو متوقع: خمسة عشر يوماً بعد أن رفض المعتقلون التحقيق معهم وطلبوا انتداب قاضي تحقيق لضمان حياده طبقاً لنصيحة المحامون. يخبروننا أيضاً بما هو غير متوقع: حالتهم المعنوية مرتفعة وكلهم بخير. منال مازالت في الداخل تحاول رؤية علاء ولو لدقائق. يسمح حاجز الأمن للأم والأب الملتاعين بالمرور بالرغم من رفض ابنتهم الزيارة. ويا ليتهم ما سمحوا لهم بالمرور تعدياً على حق معتقلة في رفض الزيارة.

فور أن نرى بداية الترحيل إيذاناً بخروجهم نجري إلى الباب الذي يخرجون منه ونبدأ في الهتاف بأسمائهم "فاااااااااااااادي، أسماااااااء، علااااااااااااااااااء .....". يرفع بعضهم أيديه بعلامة النصر ويهتفون: "يسقط يسقط حسني مبارك"، نبادلهم الهتاف والتصفيق "حرية حرية". يحدث ما لم يكن في الحسبان. يبدأ والدي المعتقلة في الصراخ فينا وسبابنا حين يشاهدوننا نهتف: "ما تضيعوهمش معاكوا، انتوا السبب"، "يخرب بيت أهاليكوا يا صيع" وينتهي "بحسبنا الله ونعم الوكيل فيكم". تصرخ فيهم فتاة: "فيهم مش فينا". أتخيل حالة ابنتهم المعتقلة بينما تختزن هذا المشهد كمشهد أخير قبل دخول التجربة الصعبة الجديدة. تامر وجيه يمنعنا من الرد عليهم ويقول بينما تتحرك سيارة الترحيلات بالهتافات داخلها: "يسقط يسقط حسني مبارك" "خلاص يا جماعة، خلاص كفاية". يتجمع الجنود ومجموعة ضباط تحسباً لأي احتكاك. تنتظرني مفاجأة أخرى بشأن الفتاة لاحقا. نحاول العبور للجهة الأخرى لمشاهدة سيارة الترحيلات التي توقعنا أن تذهب بهم لطرة فيكون عليها العودة من الاتجاه الآخر. يعبر معنا ضباط ولا يحتكون بنا. نكتشف إن سيارة الترحيلات لن تسير من ذلك الطريق، ربما بسبب عبورنا. يتحرك الضباط والجنود عائدين فنفهم إن السيارة لن تعبر من هناك فعلاً. جميلة اسماعيل المتواجدة تخبرنا بإنهم ربما سيعبرون من الميدان فنجري لعلنا نراهم مرة أخرى. نجري إلى سيارة على ومنال بداخلها لنحاول تتبعهم، ننتظر كثيراً ولا يمر أحد. نكتشف السبب في اليوم التالي، إنهم قد رَحِلوا لقسم الخليفة ليقضوا فيه الليلة ومعظم اليوم قبل ترحيل الفتيان إلى طرة المحكوم والفتيات إلى سجن النساء بالقناطر. إحباط جديد. تطلب مني منال المبيت معها فنذهب بسيارة على ومعنا شقيقة علاء التي تبدو في حالة معنوية مرتفعة. في السيارة نحكي لمنال عما حدث من والدي زميلتنا المعتقلة فتفاجئنا إنهم حين دخلوا إليها في النيابة أشبعوها تقريعاً وتهديداً بما سيفعلونه بها بعد أن تخرج. أشعر بغضب خانق وأتبرم من تلك العلاقة الأنانية التي تربط الأهل بأبنائهم. أتخيل حال الفتاة بينما يعايرها أباها وأمها بإنها "فضحتهم"، تحاول الموجودات تشجيع الأم والأب بتذكيرهم إن اعتقال ابنتهم إنما "يشرفها". رغماً عني تتداخل في ذهني معاني "الشرف". أعلن غضبي في السيارة حين تخبرني منال بإن الفتاة بعد أن كانت في حالة معنوية مرتفعة مع زملائها وهي على السلالم ساءت حالتها جداً. تدور بذهني حيرتي المستمرة بشأن تلك العلاقة التي يتورط فيها كل البشر: البنوة. تخبرنا منال إنها لم تستطع مقابلة علاء إلا لدقيقتين فحسب.

في بيت علاء ومنال لدى منال مهمة الوصول لصور للمعتقلين لنشرها في الدستور. نمر على كل صور المظاهرات التي جرت في العام ونصف الماضيين. أتعجب كيف انخفض عددنا من مئات إلى أربعة عشر وخمسة عشر متظاهراً. أجزع قليلاً حين تمر صور علاء، خاصة صوره خارج المظاهرات ضاحكاً أو شقياً كعادته. تبدأ منال في مراجعة التعليقات التي تصل لموقع منال وعلاء. أشاهد جزعاً وشبه دمعة على وجهها حين تقرأ تعليقاً لأحد السفلة وتسألني أتضعه أم لا. أقول لها إن دناءته ستشجع الآخرين على الرد عليه. أسأل منال كل حين عن حالها وإعجابي بشجاعتها. تخبرني إنها لا تظنها شجاعة بقدر ما تظن إنها لم تستوعب ما حدث بعد، وإن أقصى مدة بقيتها بعيداً عن علاء هي ثلاثة أسابيع وكانت حدثاً بالنسبة لهما وكانت قبل أن يتزوجا. تؤجل النوم حتى تنتهي من مهامها على الحاسوب. العشاء والشاي بلبن "المخصوص" الذي تعده منال لنفسها ولا يستطيع أحد اعداده لها.

بعد تأجيل نقرر دخول الفراش، أسألها في أي جهة تنام عادة. أنظر إلى وجهها في الظلام وأتمنى ألا يحاول عقلها الذهاب إلى حيث الحبيب. بعض الوقت واستنتج من انتظام تنفسها إنها نامت، بينما أنا كالعادة لا أنام سريعاً. ولإنني أتقلب في الفراش أكثر من سيد حصالة بكثير أقرر استعمال الأريكة في الصالة خوفاً من إيقاظها وحرمانها من ساعتي نوم لا نعرف متى ستستطيع الحصول على غيرهم.

منال كما عرفتها شخص سعيد الروح. ليست مرحة فحسب، إنما تبدو دائماً غير حاملة للهم، كإن روحها غير قابلة لحمل الهموم حتى لو أرادت. ربما لذلك مازالت صامدة وتتصرف بشكل عملي حقيقي يساعد علاء الذي نعرف كلنا قوة علاقتها به. نوع من القوة أظنه نادر. روحها خفيفة وصعب إزعاجها. أتعجب مما استطاعت أن تنجزه لمساعدة علاء في يوم واحد كان توقعي أن تكون محطمة فيه. نوع من القوة أكاد أحسدها عليه. نحاول أن نقنعها في اليوم التالي ألا تبقى وحدها في البيت ولكنها تصمم إن حياتها لابد أن تسير بشكل طبيعي. تضحك معنا أحياناً حين نضحك.

على الأريكة لا أستطيع الكف عن التفكير فيهم بينما تصر القطيطات الصغيرة المولودة حديثاً على اللعب في غطاء الفراش الواقع بين رجلي والتمرغ فيه. لست قلقة على علاء بقدر ما أنا حزينة أن يضطر للمرور بموقف صعب. أتذكره حين قال: "لازم لما الواحد يبقى له عمل سياسي يبقى مستعد إنه هيتحبس ويضرب ويغتصب". دائماً ما يناقش الأمور من وجهة نظر عملية. حار في المناقشة. قبل يومين كنا نجلس هادئين في منزله فخرج من الغرفة ضاحكاً: "ناقشيني في أي حاجة عشان أتخانق معاكي". كثيراً ما تتطور مناقشاتنا لمعارك حامية. لا يستطيع أن يعيش بلا قضية.

عرفته صريحاً إلى حد الوجع، طيباً جداً على عكس ما يظنه من لا يعرفه، بسيطاً وتلقائياً. قادر على التركيز في المناقشة بشكل مزعج إذ لابد أن تشحذ كل قدراتك الذهنية لمناقشته ولا تتوقع أبداً إنك في نزال سهل إذا قررت النقاش معه. حنون على القطط التي تملأ منزله. ينهرنا حين نخبره إن القطط تستطيع العيش في الشارع حيث إن إحدى قططه ذات عين واحدة قائلاً: "هتبقى في خطر لإنها مش شايفة نص الدنيا". عرفته نزيهاً ليس لديه ما يخفيه. انسان غني وليس مجرد عابر في الطريق. قبل أيام في مظاهرة يقول: "أنا بأحب مدونات بنات المنصورة وإي زي وزبيدة – البنات المبدعين يعني" ثم ناظراً إلي كأنه تذكر: "وانت طبعاً يا باشا". قبل اختطافه بيوم أقضي أمسية مع مجموعة من المدونين من بينهم علاء. يتطرق الموضوع في السيارة لقائمة كنت أكتبها لـ "خمسون شيئاً سأفعلها قبل أن أموت". نتضاحك و أقول له لن أخبرك إذن بواحدة من الأشياء التي كتبتها فيها. يشجعني قائلاً: "قولي ولو حاجة أبيحة مش هأذلك بيها". أخبره إن القائمة ليس بها "أي حاجة أبيحة". فيضحك: "قبط، شغل كفاتسة، كاتبة خمسين حاجة مافيهمش حاجة أبيحة؟". يضحك مصطفى حسين بدوره: "مش كفاتسة يا عم هما الستات كدة، ممكن يكتبوا خمسين حاجة مافهمش ولا حاجة أبيحة". نضحك كلنا.

عرفته نشطاً يفعل كل شيء بحماس: العمل واللعب والعراك. ضحكته مميزة ورنانة. لا أخشى عليه من الحبس وأتوقع أن يخرج أقوى مما دخل. يشاهد أخي قلقي فيذكرني بهذه الحقيقة: "سيخرجون أقوى مما دخلوا، وأقدر على الفعل مما دخلوا"

علاء يا صديقي: نحن في انتظارك. سندخل بيتك قريباً وأنت فيه.

أتخيلك ستتكيف مع الحبس من اللحظة الأولى وتبدأ في التوعية السياسية للمساجين.

لا أعرف لماذا أتخيلك مستيقظاً بعد نوم عميق في يومك الأول في الحبس حاكاً صدرك متساءلاً: "إيه النظام بقى هنا يا اخوانا؟"

تركت منال اليوم ومحاولات استخراج تصريح الزيارة مستمرة.

خلوا علاء يرجع لمنال

التسميات:

<
eXTReMe Tracker
Office Depot Coupon Codes
Office Depot Coupon Codes