التعذيب عندنا... وهما مننا (1)
أشعر بدفعة قوية تشبه نصف ضربة تدفعني من الخلف
فأميل قليلا على الشاب الملقى على الرصيف وسط عدد من الواقفين يفوق العشرة أفراد.
الشاب على الأرض مقيد، اختطف حقيبة سيدة في السابعة صباحا في الشارع الذي أسكنه
وهرب هو وزميله على دراجة نارية وطاردهما سائق أجرة شجاع حتى أغلق عليهما الطريق
فتخلى سائق الدراجة النارية عن زميله خطاف الحقائب الذي سقط على الأرض وفي يده
حافظة السيدة وفي جيبه مطواه.
أسمع سيمفونية الأصوات التي اعتدناها في شارعنا الذي كان آمنا نسبيا قبل عقد من
الزمن. صراخ أنثوي أو ذكوري يهتف "حراااااااااامي"، تتبعه جملة من
الأصوات المشاركة وجري وهرولة حتى يتم "القبض" على هذا
الـ"حرااااااااااااااامي" ليبدأ سيناريو محفوظ: يتجمهر أهالي الشارع
المستيقظين في هذا الوقت المبكر بادئين في تشمير أكمامهم استعدادا لتعذيب الحرامي فنرتدي
زوجي وأنا وأخي إن كان موجودا أول ما يقع تحت أيدينا من ملابس لمنع تحول
الـ"حراااااااااااااامي" لقتيل بلا دية. ينظر الناس إلينا بعدائية شديدة
وتكال اتهامات من نوع: "دول عايزين يمشوه"، "مالكوش دعوة"
وينالني أنا عادة بعض الدفع والضرب الخفيف لأن الطريقة الوحيدة لحماية المحتجز هي
أن تحميه بجسدك ولأن زوجي طويل ويوحي بالقوة العضلية لا يجرؤ أحد عادة على دفعه أو
التعرض له. نحاول استمالة الشارع في ما يشبه المناقشة حتى تأتي الشرطة ونثبت ما
حدث في محضر رسمي طالما معنا الشهود ولا يعجب هذا سكان المنطقة نصف الراقية ويصرون
على إن "البوليس مش هيعمل حاجة" وإننا لازم نضربه. تفزعني اقتراحاتهم
بقطع يده مثلا كإنهم يتحدثون عن عروسة حلاوة في مولد النبي. ذكي آخر يقترح أن
نضربه على رأسه أولا حتى يستفيق لكي يشعر بالضرب الذي سيضربونه له. في مقاومة نحاول
زوجي وأخي وأنا أن نُفِهِم الأهالي محترفي التعذيب أن والدتينا التي تعدت كلتاهما
العقد السابع تعرضتا لجذب حقائبهما عدة مرات أسفرت مرتان منها على سقوطهما على
أسفلت الشارع وإصابات متنوعة جراء السقوط. نحاول أن نفهمهم أن "إيدينا مش في
المية"، أحكي لهم عن والدي الذي ضعف بصره كثيرا في السنين الأخيرة وكيف سُرٍقت
حقيبته. نحاول أن نلفت نظرهم أنهم لن ينتصروا على عصابة منظمة من اللصوص يبدو أنها
حفظت المنطقة بتعذيب أفرادها. نلفت نظرهم أن المحتجز نفسه لا يعترض على تعذيبه
بقدر اعتراضه على إبلاغ النيابة بمحضر رسمي وشهود. حين أصررنا يومها على الذهاب
للقسم وتسليم المحتجز حتى لو لم تحضر الشرطة التي طلبناها ثلاثة مرات ولم تعبأ
بنا، دخل الشهود إلى مكتب ضابط المباحث، سألهم وسأل الشاب المحتجز وبالخصوص عن
زميله الذي هرب فأنكر الشاب كل شيء – غالبا بناءً على اتفاق "الشرف" بين
أفراد العصابة الواحدة ألا يعترف من يُقبَض عليه بشركائه، فما كان من رئيس المباحث
إلا أن قال للشاب: "خلاص، لو عايز تشيل القضية لوحدك إنت حر" ثم خرج من
مكتبه وترك الشاب داخل المكتب لمدة عشر دقائق. أنا شاهدة أن أحدا لم يضغط على هذا
الشاب في هذه الواقعة تحديدا في القسم أي ضغط ولم يعامل أي معاملة سيئة هناك. (كان
زوجي يحاول أن يمنعني من دخول القسم لتوقعه أن يتعرض الشاب للضرب وألا أتمالك نفسي
وقتها ويتعقد الموقف المعقد مقدما). عاد ضابط المباحث بعد عشر دقائق إلى مكتبه.
كانت العشر دقائق كافية ليعيد الشاب حساب وضعه الحرج. ما إن قال له ضابط المباحث:
"عايز تقول حاجة تانية؟" حتى قال الشاب: "أيوة يا باشا، عايز أقول ع
إل كانوا معايا". اتضح أن الشاب صاحب ستة سوابق سرقة ولهذا لم يكن لديه مانع
من أن يُضرب باعتبار ذلك جزء من مخاطر المهنة مقابل ألا يتم تسليمه قانونا. حاولنا
أن نستغل ما حدث لتنبيه أهل الشارع أن سياستهم في "التعذيب" لا تُجدي في
حمايتهم قدر تمسكهم بحقوق قانونية. تكرر الموقف باختلافات طفيفة في التفاصيل ثلاث
مرات ولكن بالنظر أن حوادث السرقة المتكررة بنفس الخطة والطريقة والتي كانت آخر
ضحاياها أمي للمرة الخامسة الأسبوع الماضي، يُمارس التعذيب من قِبل الأهالي في
شارعنا بشكل منتظم ويزداد منهجية.
حين قامت الثورة ضد التعذيب الذي تمارسه الداخلية يبدو أن كثير من المشاركين فيها
كانوا يقصدون ذلك تحديدا: التعذيب الذي تمارسه الداخلية، بلا اعتراض حقيقي على
التعذيب نفسه سواء من جهة المبدأ أو "أن هناك من يستحقون التعذيب" بينما
"الداخلية تعذب لصالح النظام". كان اعتراض الكثيرين على نظام
"التعذيب بالنيابة" وليس على التعذيب ذاته.
من الحماقة أن نتوقع الآن، خصوصا بعد ما شهدناه من تعذيب "للبلطجية" من
قبل "الثوار" منذ اعتصام الثامن من يوليو 2011. مع زيادة العدد وبالتالي
انخفاض نسبة النشطاء ممن كانوا يعملون على وقف التعذيب كمبدأ قبل الثورة بسنوات
أصبحت السيطرة على الفكرة المتجذرة فينا بقبول التعذيب "بشروطنا" تزداد
صعوبة.
حين تناقش من يقوم بالتعذيب ستسمع كلاما كثيرا عن الردع وإنهم يحمونك وإنك دونهم
ستكون لقمة سائغة للبلطجية وأن تعذيب الطرف المضاد سيقلل أعدادهم مستقبلا وهو ما
لم يحدث ولن يحدث لأن التعذيب لم ولن يؤدي إلى الردع يوما، سيؤدي فقط إلى شخصنة
المعارك وإضاعة الوقت في انتقام أحمق لا يجدي وتثبيت قناعة مجتمعية لابد من اقتلاعها.
بانتشار الثورة شعبيا أتت ومعها صفاتنا ومعتقداتنا وعليه لا عجب أن يقوم بعض من في
خانة الثوار بتعذيب عُزَل لمجرد التنكيل بهم والتلذذ بالانتقام. عودة للمربع صفر
الذي بدأنا منه في 2004 وما تلاها، على من بدأوا مسئولية تصحيح المسار والتأكيد
على أن سقوط الإخوان الذي سيكون ثمنه تثبيت مفاهيم تعتقد أن التعذيب من الممكن أن
يكون مقبولا في مجتمع جديد يبحث عن "كرامة إنسانية" لن ينتج إلا مجتمع
لا كرامة فيه لأحد والبقاء فيه كما كنا قبل يناير 2011: للأكثر قدرة على التعذيب.
الشخص الذي ذكرت أنه قام بدفعي أثناء محاولة الوقوف بين الجماهير شاحذة الهمة
للقيام بمهمتها المقدسة في تعذيب المتهم بسرقة الحقيبة كان قاضيا ما زال يمارس
عمله من على المنصة وحين واجهته بأنه يجب أن يكون أول المعترضين من باب أن هذا
تعدي على عمله على الأقل كان رده: "الحرامي لازم ينضرب"
- يُتبع -
التسميات: تعذيب