الجمعة، نوفمبر ٠٤، ٢٠١١

من البلبطة في جردل صغير إلى ثورة التحرير: أختام على القلب





طيب، مادام وجبت، خليني أحكي الحكاية. كنت واعدة نفسي ما أكتبش حاجة شخصية عن علاء ومنال المرة دي وهو في الحبس وأقلد منال من المرة إل فاتت وأبقى عملية. بس أنا عيلة ولما أصطبح على صورة علاء مكتوب عليها "ما تمنعوش الصادقين عن صدقهم" هأعيط وهأرجع في كلامي ومش هأعمل جامدة وعملية وناشطة وعمل أهلي والليلة دي.

علاء أصغر مني بخمس سنين. أول ما عرفته كان أصغر مني بأكتر من كدة بكتيروده مفهوم. إل جمع بيننا ومجموعة كبيرة تانية من أجمل ولاد وبنات مصر وكأنهم لقوا بعض في الزحمة كان ظهور المدونات. الكلام ده في 2004 – 2005، لما كانت المدونات زينة الكتابة المصرية وكان التدوين مأخوذ بجدية شديدة والمناقشات علي التدوينات مأخوذة بجدية أشد، أيام ما كانش حد من المجموعة المدوِنة الصغيرة يجرؤ يكتب تعليق قبل ما يقرا التدوينة بالكامل ويدرسها، من جهة لأن الناس كانت واخدة الموضوع بجدية ومن جهة تانية لأنه عارف إنه لو كتب من غير ما يفكر هيتفرم بعدها بعون الله ، ده كان قبل ما التدوين لا مؤاخذة ما "يلم" وكل واحد معدي يقراله سطر في تدوينة يلاقي إنه الواجب عليه يكتب أي كلام في أي حاجة عن أي حاجة دارت في مخه وهو بيهرش مصحوبة بالسباب المناسب لمكان الهرشة واترشقت المدونات بالأرازل إل بياخدوا على عاتقهم مضايقة مدونين بعينهم لأسباب شخصية بحتة وتحيزات وتعصب.
بدأ علاء ومنال وقتها الاهتمام بالمدونات كوسيلة للإعلام الشعبي والعمل السياسي ودعموها فنياً بوسائل متعددة منها وربما أهمها "جردل منال وعلاء" إل جمع كل التدوينات التي نُشِرت على كل المدونات وكانت تظهربشكل يومي تلقائياً على المجمع وتحول التدوين بقدرة قادر لجريدة يومية حملت أنظف أفكار في مصر وأعمق ما يمكن أن تقرأه وقتها ثم انفصل المجمع التدويني إلى كيان منفصل بإسم "عمرانية".
كنت في ذلك الوقت وحيدة تماماً، مرهقة من الذهاب والعودة من السعودية بالإضافة للدراسة والوحدة بعيداً عن زوجي الذي كان كل منا للآخر الصديق الوحيد وقتها تقريباً، نشعر باقتراب الكارثة والعزلة والغربة في مجتماعاتنا المعتادة. لسنا من عائلات مناضلين ولا يجمعنا بمن يمكن أن نتلاقى معهم أي شيء وأصبحنا نشك في وجود من يمكن أن نتلاقى معه فكرياً حتى ظهروا على العالم السحري للمدونات.

"جردل منال وعلاء"

لأن علاء ومنال لم يكونا أبداً شخصين اعتياديين، لم يكتفيا بجمعنا في الجردل الافتراضي. أثناء استقلالي لسيارة أجرة في وقت قريب من الوقت الحالي من السنة
رن تلفوني المحمول العتيق حالياً برقم غريب. لا تندهشوا إنني أتذكر بالحرف والصورة ما سأحكيه الآن: كنت أستقل سيارة الأجرة من غمرة إلى الدمرداش وفاجأني صوت لطيف يعرفني لتعرفني منال بنفسها وتدعوني لعيد ميلاد علاء يوم 18 نوفمبر 2005. المكالمة محفورة في ذاكرتي ربما بسبب الوحدة والمفاجأة بمبادرتهما بالاستلطاف ولم شمل من لا يعرفون بشكل شخصي. دخلت بيتهما يوم عيد ميلاد علاء الرابع والعشرين للمرة الأولى وتعرفت هناك على من أصبحوا بعدها أماكناً في القلب حتى لو بعدوا أو تفرقوا. ولوقت طويل كان بيتهما "جردلنا" الذي يضج بالضحك الذي يكاد يوقف قلبك والمناقشات الجادة التي تجلب الصداع وفحص وتمحيص كتابات وما يحدث في البلاد وتجمع بعد المظاهرات وتسامح لا يصدق بين أصحاب اتجاهات تباينت شرقاً وغرباً. الأصدقاء هناك وكل واحد داخل وف إيده ما تيسر، ليتوفر عيش وملح على الترابيزة وموسيقى تختلف ألوانها حسب الواقف أمام الكمبيوتر في الحجرة ومزاجه في تلك اللحظة والسخن والساقع في المطبخ وباب حجرة مكتوب عليه: "تسقط دكتاتورية الأمهات" بخط علاء المراهق حيث كان ذلك بيته الذي عاش فيه مع والديه فترة قبل زواجه وقطط في كل مكان من أعمار متعددة.
وقتها، في عيد ميلاده الرابع والعشرين كان علاء يصغرني بأكثر من الخمس سنوات الزمنية بكثير، لم تكن التظاهرات والعمل السياسي أنضجاه بالشكل الذي حدث معي ويسري مثلاً لأنه تربى عليها، مظاهرة بالنسبة له لم تكن أكثر من حدث عادي، حين سرقوا منه اللابتوب في اليوم الشنيع للاستفتاء على عار تعديل الدستور في 2005، اليوم إل انضرب فيه الجميع بدرجات مختلفة من قبل مسجلين أشبعوهم مواداً مخدرة تعجبت جداً إنه نزل المظاهرة من الأساس بلابتوب غال الثمن وعليه معلومات كثيرة من عمل وغيره لأكتشف أنه ببراءة نزل به لأن المظاهرات "عادي يعني" وليه أصلا هيسرقوه منه!! أقوله يا علاء ده أنا ما بأنزلش المظاهرة بالساعة، لم أفهم وقتها شكواه طوال شهور بعدها وحنقه على اللابتوب وإنه يريده وأظن الآن أنه كان يعتقد فعلا أن إرجاع اللابتوب ممكن لفترة طويلة بعدها. أذهلتني براءته وقتها. يا علاء، اللابتوب ما يتركبش بيه أتوبيس وبالتأكيد ما يتنزلش بيه مظاهرة. جدير بالذكر إن أول مرة دخلت بيت علاء في عيد ميلاده دخلنا في نقاش شتمني فيه لأنه كان يعتقد أن تدوينة كتبتها وقتها تحمل تعدٍ على حرية الآخرين في اختيار أمر هو نفسه لا يؤمن به بل ويكن له في كل مناسبة – ذلك الاختيار وليس من يختارونه – كل معارضة. دي كانت أول معرفة شخصية لنزاهة علاء عبد الفتاح، اللقب العائلي الذي اختاره من بين اسمه الخماسي.

"اللون الرمادي ده أنا ما أحبوش"
سيشهد الأصدقاء وقتها إن علاء وأنا نكدنا عليهم جلساتهم فترات طويلة. لما نمسك في مناقشة ما نسكتش ولأننا نختلف في مواقف كثيرة كان الجميع ينزعج من صوتنا وإصرارنا على إكمال المناقشة بغض النظر عن الوقت الذي مر باندماج حياة أو موت. يترجوننا أن نتوقف. يحلل يسري الأمر بأن المحرك الأساسي لأصحاب الشخصيات التي تشبه علاء وتشبهني هو الشغف الشديد في كل ما يؤمنون به وبالتالي لا يعبئون إلا بالانخراط فيما هم شغوفين به وبعدها يصبح الأمر شخصياً وليس مجرد موضوع نقاش يمر وحين يظهر موضوع "الشغف" يتم إطفاء الأنوار عن كل ما هو خارجه ويصبح هو وليس غيره موضوع "الحياة". لو أردت أن تعرف مدى الجدية التي يأخذ بها علاء ما هو شغوف ومؤمن به ممكن أحكيلك على التهزييء إل كنا بناخده لأننا بنستعمل نظام "ويندوز" على كمبيوتراتنا بينما أنظمة البرمجيات الحرة متاحة وعنده استعداد لمساعدتنا في استعمالها وبلغت به الحماسة أن أعلن إنه لن يساعد أحد يعمل بنظام ويندوز حين تواجهه مشكلة تقنية قائلاً تستاهلوا، وعلاء طبعاً لمن لا يعرف من أقطاب "لينكس مصر" حيث تأكل البطاريق الطعمية. أنا فاكرة مرة في زيارة صرخ فينا عدد من الأصدقاء: "كفاية بقى، زهقتونا" فصعبوا علي وقلت لعلاء: "خلاص يا علاء كفاية المناقشة لأنهم اتضايقوا" فرد في ثانية واحدة "يسلوا نفسهم في إل هم عايزينه، ماحدش جابرهم يسمعونا، إحنا مش الأراجوزات إل شغلتنا نسليهم". هذه الجملة تأتيكم بختم علاء عبد الفتاح صاحب أحد الأماكن المميزة في القلب وإن تغرب أو بعد أو حتى كرهني، أختام القلب أيضاً لا حكم لنا عليها.

"السجن للجدعان"
لم يكن علاء وحده هو غير المستعد لتجربة السجن الأولى حين قبض عليه في إبريل 2006 وقت تحركات دعم القضاة. ولست أحاول هنا حاشا أن أقارن بين ما مر به في الداخل وما مرت به منال أثناء اغترابها عنه وما مررنا به نحن من أصدقائه. هذه مجرد حكاية عن تجربة شخصية تُعَرِف علاء كما عرفته، بعيناي، تحول المُعتَقل علاء لمن لا يعرفه للإنسان الذي عرفته. ليست تدوينة سياسية ولا حملة لإطلاق سراح علاء. إنها خواطري الشخصية. كان دخول علاء الصديق المقرب من أصعب التجارب التي مررت بها أنا شخصياً في حياتي. مر علي وقت أحسست فيه أن الأسهل أن أكون أنا المسجونة لأن إحساس العجز كان قاتلاً وكاد لو تعرفون أن يكون. لم أستطع أن أُعبر لأحد عن انهياري في الأيام الأولى، أولاً لقضائي معظم الوقت في الأيام الأولى مع منال وثانياً لأني قدرت أن باقي الأصدقاء يمرون بما أمر به فلا معنى أن نتبادل الانهيار. هل تتصورون أن علاء كان يقول أن من يعمل بالسياسة لابد أن يكون مستعداً لأن يُسجَن ويعذب، ربما ببساطة لأن تلك كانت تجربة والده المناضل أحمد سيف هو نفسه علاء الذي تعجب وغضب واتخذ اجراءات فعلية بشأن سرقة اللابتوب الخاص به من قبل الأمن في مظاهرة؟ ألم أقل لكم إن علاء وقتها كان أصغر مني بكثير وليس بخمس سنوات فقط؟
كانت أيام العرض على النيابة فرصاً لرؤية علاء ولو من بعيد. من المواقف المحفورة في ذاكرتي خروجهم يوماً بشكل مفاجىء بينما كنت خارج نيابة أمن الدولة في ميدان المحكمة وإسراع سيارة الترحيلات لتهرب منا لتمسك بها الدائرة المغلقة لميدان المحكمة الذي أغلقت السيارات بالشكل المعتاد الممرات كلها على بعض وانحبست السيارة. أركض حتى الميدان وأنادي من عند الفتحة المغطاة بالقضبان المعدنية: "يا علااااااء". يسمعني فإذا به يقول: "جاااين، إزيك يا بت!" (محدش في الدنيا مسموحله يقول لي يا بت بس الظروف بقى). أسأله عايز حاجة؟ يقول: "تعالي زوريني"، أرد: "حاولت نروح مع
العيلة ما رضيوش يدخلوني يا علاء". أودعه بعد أن يُفتح الطريق أمام سيارة الترحيلات. كنت قد حاولت التسلل لزيارته مع منال ومنى ولكن انتهى الأمر بأن قضينا نصف اليوم في ساحة انتظار سجن طرة استقبال ثم لم يسمحوا إلا بدخول فردين من العائلة لعشر دقائق. سمعت بعدها أغرب سبب لمنعنا من التساهل في زيارته: "علاء قالب الدنيا جوة عشان الجوابات ما وصلتش". حتى في السجن يا علاء مش عاتقهم؟
خرج علاء من الحبس بعد 45 يوماً وزرناه واطمئننا عليه بينما آثار التجربة ما زالت عالقة، ليس فقط في شعر رأسه الحليق. شعرت إن فارق العمر الفعلي بيننا بعدها بدأ يضيق. علاء كبر وتغير كثيراً. ظللت أبحث عن ذلك الشيء المفقود لكنني لم أستطع أن أضع يدي عليه تحديداً. ثقلا جديدا، تباعدت جلسات الضحك والمناقشة ومشاطرة العيش والملح وانخرط علاء بقوة أكبر في هوسه الأول: البرمجيات الحرة وحرية الانترنت وسافر. افتقدته ومنال بشدة، اعتدنا بعدها أن يجتمع الأصدقاء المشتركين في بيتنا ولكن فراغاً قوياً كنت أحسه، لما يمل الأصدقاء المناقشة بعد وقت قصير فاقول بصوت عال: "فينك يا علاء يا صاحبي ما كنتش هتسيبني أفلت بيها".

"قولوا للكلب العادلي وسيده... بكرة الثورة هتقطع إيده"
لست أدري إن كان علاء ومنال قد قررا السفر يأساً أم أملاً أم بحثاً عن عالم جديد. المؤكد أن علاء ومنال الذين أعرفهما عادا فوراً للقيام بما هو باق في القلب. ما صرخنا به وعشرات لسنوات وكإن حياة بُعثت في هتافتنا التي كنا نجاهد لتعبر حاجز جحافل الأمن المركزي. الشغف، لم تتمكن إغراءات الحياة الجميلة أن تطفىء الجذوة ووجدنا علاء ومنال وسطنا. بعد سنتين سعدت إنهما موجودان ولو من بعيد. عادا ليشتركا في ثورة تنظيف مصر، لتنفيذ كل ما هتفنا به: "أمن الدولة كلاب الدولة"، "لا لمبارك أب وابن، لا للفردة ولا الاستبن"، "كله هييجي عليه الدور، تقفوا كدة ورا بعض طابور".

"علاء الجدع، النزيه والشريف"
لم يحاول علاء يوماً أن يلعب دور البطل، بالرغم من أن ذلك كان ممكنا له لأسباب كثيرة ومتاحا في مناسبات عدة، بل اختار الاختيار المعاكس: كان يضيق بصورة البطل وينكرها. كان يعمل ما يراه واجباً وما يؤمن به، لم أره يوماً يتصرف بعكس ما يعلن أو حتى ما يقوله في الدوائر الضيقة. خياره بسيط جداً: سأتصرف دائماً بما أعتقد إنه الصواب وما يجب أن يكون. بعد سجنه الأول ضاق من تصويره كبطل قومي وعبر عن ذلك أكثر من مرة صراحة وضمنا، إلى هذا الحد كان يرى أن من عانوا أكثر وعملوا أكثر هم من يستحقون ألقاب النضال. حياته كلها مكشوفة، كنا تعلمنا وقتها في مواجهاتنا مع النظام أن نجعل كل تصرفاتنا "على عينك يا تاجر" وكان الأغبياء مصرون أن يبحثوا عن عمل سري بينما نحن نعلن في كل مكان ما نفعله. غباؤهم دائماً في الخدمة. لم يخف يوماً رأي من آرائه تخوفاً من نظرة الناس لها وأعتقد إن ما فعله في النيابة العسكرية لا يخرج عن ميزان تصرفاته البسيط: "الا يخون ما يؤمن إنه الصواب في موقف ما". علاء عاش ما يؤمن به ببساطة وبخفة روح وبضحكة مجلجلة لا تنفي المعاناة وها هو من جديد يعلي سقف النضال ضد العسكر وضد الظُلمة التي اعتمت ثورة شريفة قام بها أمثال علاء ويتربح منها أمثال... ما علينا.
علاء فعل ذلك لأنه جدع ونزيه وشريف ولا يقبل أنصاف الحلول. الشغوفون لا يطيقون أنصاف الحلول، تصيبهم بالضيق ولا يتحملون طبيعتها المزدوجة. لم يفعل علاء
ذلك لأنه "دكر". علاء سينجب خالد مع رفيقة حياته منال لأنه "دكر" أما بخلاف ذلك فأظنه لن يعجب باللقب الذي حملوه إياه للدلالة على شرف ونزاهة.
خالد، ثمرة الأمل في الثورة، كأن منال وعلاء كانوا بانتظارها ليثبتوا بشكل شخصي كيف غيرت حياتهما.
وبالنسبة لي بشكل شخصي فلو قلت لعلاء يوماً "لا يا واد...دكر" أظن إنه هيشتمني لأنه يعرف تماماً إنني لا أستخدم الألفاظ الذكورية إلا في السخرية من الذكوريين وأنا بأخاف من غضب علاء عشان بيزعق في.

علاء صديقي الذي كان شريكاً أساسياً وفاعلاً في الدفاع عن حقوق التشريح وتهدئة الأهالي في اليوم العصيب لمذبحة ماسبيرو في المستشفى القبطي وبكاؤه الذي لم يخفيه هو علاء الذي أعرفه، لم يتغير بعد الغربة. كان فاعلاً أساسياً في إزاحة من تواطئو لمسح الدم وقتل الشهداء مرةً أخرى. ما بين الحزن والتصميم والبكاء على الغلابة الذين يستهدفهم البطش رأيت كيف تقاربت أعمارنا وأصبحنا في عمر واحد. ربما يكون هذا هو التغيير الوحيد في علاء الذي لاحظته. كبرت يا علاء غصب عنك أمام المدهوسين والأصدقاء الذين تصيدتهم
رصاصات الغدر. من لم يبك معك يا علاء لما كتبت "مع الشهداء ذلك أفضل جداً" أظنه يعاني من بلادة ما وما أكثرهم بيننا. حاسب يا علاء من الخيانة إل جاية من قريب. قبل أيام من حبسك كنت تقول لي أن الانتخابات لابد أن تتم بأي شكل لأننا في الشارع مخترقون من كل الجهات. احذر يا علاء، ربما يكون هذا الاختراق أقرب إليك مما تتصور.

يا علاء، يوم 18 نوفمبر هنحتفل بعيد ميلادك الثلاثين. أنا عارفة إنت قد إيه بتخاف تعجز. بس متهيألي إل زيك ما بينفعش يعجزوا. هنحتفل بك وإنت بتنتقل لعقد تاني في بيتك أو قدام سجن طرة. هذا عيد ميلاد لن نمرره كأي عام ممكن يتعوض. سلام يا علاء يا صاحبي لحد ما أشوفك


*الصورة فكرة هنا زين ونفذها شمعي أسعد

الأربعاء، نوفمبر ٠٢، ٢٠١١

المنظمات غير الحكومية: نشطاء أم محترفون؟

ربما لا الإجابة ولا السؤال هي ما يبدوان عليه. لو أردت أن أبدأ هذه الورقة بعبارة قصيرة فستكون: ليست لدينا الآن رفاهية الاختيار

السادة المنظمات الأهلية المصرية وتحديدا العاملة على عدم شرعية المحاكمات العسكرية للمدنيين وحقوق الإنسان والحقوق الشخصية والصحية في الوقت الحالي، لأن القدر استجاب لما أردنا الحياة وأصبحت لدينا ثورة وثواراً ومواطنين لابد من الدفاع عنهم والوقوف إلى جانبهم ضد بطش العسكر والانتهاكات القانونية وانتهاكات حقوقهم الطبية والصحية وتواطؤ المؤسسات الحكومية فكل منظمة مصرية تقريباً كبيرة أو صغيرة بالإضافة إلى المجموعات الأهلية التي تكونت بدون تسجيل حكومي صارت كلها تعمل على أقصى طاقة لها وصار العبء على الجميع مقلقاً أولاً لأنه لا يتحمل الزيادة بينما نتوقع تصعيدات كثيرة محتملة من العسكر وبقايا النظام وخاصةً مع اقتراب الانتخابات وثانياً لأن زيادة العبء إلى حد الإرهاق الشخصي للناشطين يهدد قدرتهم على استكمال مهامهم ويهدد كفاءتهم ويعرضهم لمتلازمة (نفاد القدرة) (burnout syndrome).


وعلى هذه الملاحظات وما قدرته من التعاون مع العديد من الأفراد في المنظمات الأهلية وبالذات المنظمات التالية:مركز النديم للعلاج والتأهيل النفسي، المنظمة المصرية لحقوق الإنسان، المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، لا للمحاكمات العسكرية للمدنيين، مركز هشام مبارك للمساعدة القانونية بالإضافة للمحامين المتطوعين وعملنا نحن في المجموعة المصرية للرقابة على الخدمات الصحية (مش مقبول)فإن الأشخاص المنتمين لهذه المنظمات كلها كأفراد يبذلون ما يفوق طاقة الاستمرارية والعمل المستدام في ظل احتياج شديد لتأمين الديمومة لأننا لسنا في أزمة نتوقع أو لدينا خطة لانتهائها في زمن معين فنبذل فيها الطاقات ونلجأ بعدها لإعادة شحنها، بل الجميع في عمل يومي لا يتوقف لا بحلول المساء وأحياناً ولا حتى بحلول اليوم التالي، مدفوعين بالنيات الخالصة والضمائر التي تعاف النوم بينما يعاني آخرين وبإمكانهم المساعدة.تقريباً ليس ممن تعاونت معهم من لا يعاني من نقص ساعات النوم ونقص ساعات المخصصة للعناية الشخصية وقضاء وقت خارج دائرة "القضية".

جزء من كل ذلك متوقع وليس لنا ذنب فيه ولكن جزء آخر كبير مسئول عنه العمل الأهلي المصري. فمن الملاحظ بقوة كم الوقت والجهد الضائع في التنسيق بين الجهات المختلفة مابين عمل أكثر من شخص على عمل يلزمه شخص واحد لأن كل منهم يظن إنه يعمل فيه وحيداً وما بين ضياع قضايا وأشخاص لأن كل يظن إن آخر تولى المهمة .ويدفع العاملون في العمل الأهلي الذي وصلوا لدرجة الإنهاك بالإضافة للمحتاجين لعملهم ثمن باهظا لغياب تنسيق حقيقي وجدولة منظمة. دفعني لكتابة هذه الملاحظات والاقتراحات التالية الفوضى الجمة التي لاقيناها بالأمس مع قضية (مينا طلعت نصحي).يمكنكم اختبار التنسيق بين الجميع بكم الوقت الذي ستستغرقونه بعد قراءة هذه السطور للوصول لقضيته وتطوراتها حتى الأمس وعدد المكالمات أو المراجعات التي ستضطرون للقيام بها والتي من المفترض أن تكون مجرد اسم يدخل إلى حاسوب كل منظمة منكم فتظهر كل التفاصيل حتى أمس مساءً.

في رأيي المتواضع جدا ومدركةً تماماً تحديات العمل الأهلى وإدارته في مصر أقدم ورقة المقترحات هذه للعرض عليكم، علها تلقى أي استجابة تساعد في رفع العبء الثقيل عن نساء ورجال مصر الشرفاء المتحملين عبء العمل الأهلي في مجتمع ما زال يربطه بالعمالة والسرقة وملاحقة الشهرة ويلاقي من العسكر ما يلاقيه:

1- تعيين منسق في كل جهة من الجهات العاملة على القضايا المشتركة يحمل لقب ووظيفة"منسق" فقط.انتهى. لا يتورط في أي عمل آخر مهما بدا إنسانياً وعاجلاً ومهماً، فتلك هي الزلة التي يقع فيها معظم من يديرون العمل الأهلي. لا تكون لذلك المنسق أي وظيفة أخرى سوى "المتابعة" "الدقيقة" لكل الحالات بشكل الأرشفة سواءً التي تعمل عليها منظمته أو التي تعمل عليها المنظمات المنسقة معها وكل ما يتعلق بها وتجميعها بشكل منظم لا يتضمن "المعلومات كلها في رأسي" وبطريقة يسهل استخراجها واستخدامها في دقائق - إنه عصر الحاسوب - ويعلن إسم وطريقة الاتصال بهذا المنسق، الذي لا يشترط بالطبع أن يكون شخصاً واحداً، بشكل يجعله متوافراً للجميع على مدار الساعة بمعنى ألا تضطر عائلة طرأ لها طارىء في نطاق عمل المنظمة للبحث المجنون عن محام معين لأن معه تفاصيل قضية معينة تعمل عليها مؤسستان لمجرد إنه يقوم بعمله ولا يمكنه الرد على الهاتف وهو في قاعة المحكمة.ما المانع أيضاً من استقبال المنسق لرسائل محادثة على مواقع التواصل الاجتماعي من خلال موقع المنظمة والذي قد يفتح بابا جديدا لاستقبال من يحتاجونهم بشكل سريع؟ قبل أيام استغاث أحدهم على "تويتر" من داخل س28 طالباً محامياً يغيثه ورد عليه محام أيضاً على "تويتر".

2- تصب المعلومات بشكل دوري تحدده كل منظمة حسب قدرتها ولو لخمس دقائق كل عدة ساعات. فالواقع الذي لدينا، أو الذي لدى المجموعة المصرية للرقابة على الخدمات الصحية على الأقل هو أن معلوماتنا تتغير على مدار الساعة بشكل كبير ربما بسبب تعاملنا بالأكثر مع مرضى ومصابين وبالنسبة لنا قد تضع هذه الساعات القليلة فارقاً بين حياة أو موت، عجز أو سلامة، علاج أو لا علاج واحتياجنا للمحامين فائق والوقت المتاح لعملهم لإنجاز تصاريح أو تقديم بلاغات محصور بعدد ساعات عمل النيابة والقضاء.

3- تشكل مجموعة المنسقين مجلسا منفصلا تماما عن نشاط المنظمة الأصلي، مهمته تسيير وتيسير المهام للجميع ويتحملون مهمات الاتصال بشكل يوفر المكالمات التي تشعر الجميع بالذنب لأنهم دائما ما يعطلون عملا دائرا بوجود الجميع في عمل دائر وبالتالي يمثل ظهور طارىء عبئا جديدا ما بين البحث عمن يمكنه المساعدة وتحميل أول من يغيثه عبئا جديدا لمجرد أنه المتاح على الهاتف أو في مكتب المنظمة. أما إن تولى منسقين معروفين للجميع التحويل لمن مهمته الاستقبال في ذلك اليوم أو تلك الساعة فسيكف الجميع عن تعطيل الجميع بحسن نية، بل ويمكن لفكرة بسيطة مثل رسالة على هواتف العاملين على القضايا في حالة انشغالهم وقتها برقم منسقهم أن يحل هذه المشكلة المعطلة بشكل مزعج مدفوع بحسن النوايا، أنا أفعل ذلك طوال الوقت لعدم معرفتي لمن علي أن أصل تحديداً في أي منظمة للمساعدة فأستعمل أول رقم هاتف يطل من أحد العاملين بالمنظمة التي نحتاج تعاونها. تجتمع مجموعة المنسقين بشكل دوري متفق عليه يضمن تواجد المعلومات اليومية في كافة المنظمات (وبخطوط كثيرة أسفل العبارة التالية: بشكل لا علاقة له بالتقارير المشتركة والمؤتمرات الصحفية، إنما بالمستجدات اليومية التي تسير تروس العمل)

4- على العمل الأهلي في مصر أن يعترف أمام نفسه أولاً إنه يواجه موقفا ووضعا لم يواجهه من قبل وأن العمل بطريقة ما قبل الثورة أصبح لا يصلح وأن الأسلوب الإداري لابد أن يتغير 180 درجة. الإيقاع أسرع من الجميع وهناك حياة أناس دائماً على المحك، كل ساعة والطوارىء وأشكالها غير متوقعة (من كان يتصور قبل ثلاثة أسابيع وقليل إننا سنضطر لاحتلال مستشفى حكومي بوضع اليد للسيطرة على طارىء لم يكن في خيال أي منا قبلها بساعات؟). قبل الثورة كان توقع التعذيب وقضايا أمن الدولة وأشكال انتهاكات اعتاد العمل الأهلي في مصر العمل عليها ممكناً بحيث كان بعض التساهل التنظيمي لا يضر أحدا. نحن الآن في الموقف المعاكس، الجميع شاحذ لطاقاته ويبذلها كلها الآن وحالاً والتنظيم الإداري لم يتكيف بعد على الوضع الجديد مهدرا طاقاته أولا ومهدرا أيضا المتطوعين الجدد الذين تزايدوا كثيراً بعد الثورة يسعون للانضمام للعمل الأهلي ولا يجدون دعما كافيا لهم لأنهم يسقطون غالبا في دائرة من تحولوا إلى (أصدقاء) بعد أن عملوا معا لعقد على الأقل ويتفاهمون في هذا الإطار غالباً أيضاً وليس في إطار منظم واضح. قبل أيام كان عدد كبير استجاب لدعوة التطوع لمجموعة لا للمحاكمات العسكرية للمدنيين ليتحول الاجتماع لصراخ وعدد لا يسعه مركز هشام مبارك. كيف ستدعم العملي الأهلى بالمتطوعين الجدد لو لم يكن هناك إطار إداري علمي لاستقبالهم وتنظيمهم بشكل يسمح بتدريبهم ليوجد الدم الجديد الذي سيضمن ديمومة العمل؟ وجوهنا هي هي في كل المنظمات كما في التظاهرات كما في الإعلام.

5- هذه النقطة تخص المحامين تحديدا. الوصول إليكم صعب جدا وتذكيركم بالقضايا صعب جدا لأنكم لا تتلقون دعما تنسيقيا كافيا وأنتم حاليا مركز العمل أمام حكومة العسكر لمدة لا نعرف متى ستنتهي. اجتمعوا يوما واكتبوا ما تحتاجونه من دعم تنظيمي، قولوا كل ما تشكون منه وما يمكن أن يسهل عملكم بوضوح ليوضع على ورق ونتباحث.دعوا أحد متخصصي الإدارة يقترح عليكم كيفية إزالة جزء من العبء الهائل الملقى على عاتقكم. ستجدون لدى الإداريين أفكارا قد تفوتنا جميعاً لمنظومات قادرة على العمل بدون أن تضطروا أنتم للتخلي عن النوم لملاحقة قضاياكم. العمل في ظروف متسارعة ليس في مصلحة أحد وأولهم أصحاب القضايا.

6- بالطبع يوجد لكل منظمة موقع ما على شبكة المعلومات وقد تتوافر على الموقع أرقام هواتف وهذه الأرقام حين تعمل لا تضمن توفير نظام يؤكد عدم انسياب قضية أو مشكلة من بين كم المشكلات والقضايا الثقيلة. ما لم يتم التأكيد مرارا وتكرارا غالبا تسقط القضية بشكل غير مقصود لأن العاملين الذين يبذلون أكثر من طاقتهم بشرا، يرونما في نطاق أبصارهم حين لا يكون لديهم الوقت ليتفقدوا ما بجانبهم أو ما خلفهم.

7- ربما تكون لدى المنظمات فعلا خططا إدارية علمية ولكن الفترة الماضية أثبتت في تنظيم العمل الأهلي خروقا توجب إعادة التفكير في الكيفية التي نعمل بها. من الممكن أن تكون المنظمة سائرةً بكفاءة داخلياً ولكن حال الاحتياج لتعاون المكثف بشكل يومي كهذه الأيام لابد من إعادة النظر فيها لأنها وبكل صراحة لا تسير بالكفاءة الكافية حالما خرجت إلى منظمة أخرى للتعاون. كم من أزمة إنسانية بدأت هذا الشهر الماضي فقط بعبارة من أحد العاملين في العمل الأهلي بما معناه "عرفنا في اليوم التالي"؟ أؤمن أن كثير منها كان يمكن أن يُعرَف ويعالج بشكل أسرع بتنسيق أفضل. لدينا أم يأست من محاولة الوصول لمحامي ابنها وعجزت أنا عن الوصول لمحامي ابنها بناءً على طلبها وها نحن في مأزق نبذل فيه مجهودات "إبداعية" ليس وقتها على الإطلاق لمحاولة حل مشكلته الجدية بما يتضمنه ذلك من ضغط لأننا نعلم تماماً أن هذا بالضبط ما كان لا يجب أن يكون.

8- لابد أن تؤخذ بمنتهى الجدية الرعاية النفسية وبالذات في الوقت الحالي للعاملين بالعمل الأهلي. لا يجوز أن يعمل أحد في مثل هذه الظروف ويشهد ما نشهده من بشاعات بشكل متكرر ويومي دون أن يزود برعاية نفسية تسمح بتمرير الصدمة الثانوية التي يتعرض لها الجميع شاءوا أم أبوا. لابد أن يؤخذ هذا بجدية إلى حد فرضه في الجميعات الأهلية. كواجب لابد من توفيره للعاملين فيها. يمكن مثلاً لمركز مثل مركز النديم أن يقوم بهذا الدور في جلسات جماعية بدلاً من تراكم الصدمات والإرهاق المصاحب وما يستتبعه من مخاطر على من يعملون بالعمل الأهلي أنفسهم.

أتمنى ألا يكون في ما كتبته ما يؤذي مشاعر أي من العاملين بالعمل الأهلي والذين أعرف تماما أن السيل قد بلغ منهم ما بلغ وأن من يقضي ليلة نوم كاملة خصوصا هذه الشهر الأخير يعتبر نفسه محظوظا. كلنا نقابل بعضنا بادين كالمرضى أو كأننا قمنا للتو من مرض طويل ومالم يتم التعامل بجدية مع مهلكات الوقت والجهد سيبدأ الكثيرون في المعاناة الفعلية من متلازمة نفاد الطاقة وستبدأ لا مبالاة لا يد لهم فيها وتقبل لما كان يُرفض بالأمس كأمر واقع لا يمكن أن يتغير ونقمة على المحتاجين للعمل الأهلي. حُفِظتم جميعاً ومحبتي واحترامي لرجال ونساء مصر الشرفاء.

الثلاثاء، نوفمبر ٠١، ٢٠١١

صفرلي يا علاااااااااااااااااء

(أعيد نشرها عن أول ما قالوا يا حبس أصحابنا. نشرت أولاً بتاريخ 9 مايو 2006)

يا علااااااااااااء





أحاول أن أتذكر صاحب المكالمة التي أبلغت فيها باختطاف علاء ولا أستطيع. تبدأ المكالمات المتبادلة كما هو متوقع. منال صوتها متماسك بالرغم من أثر البكاء فيه. الساعات الأولى ومحاولة التأكد من أسماء المختطفين، ثلاث فتيات مختطفات من مظاهرة للمرة الأولى منذ بداية التظاهر. أبكي أحياناً وأتعامل مع الموقف بعملية أحياناً أخرى. مظاهرة أمام نقابة الصحفيين في السابعة. أثناء رحلة الذهاب أشعر بعجز وخوف شديدين فأهاتف ألِف المجتمع مع أصدقاء كي أقضي معهم بعض الوقت بعد المظاهرة. المظاهرة محاطة بعدد من جنود الأمن المركزي أقل من المعتاد مؤخراً وعدد من الرتب أكثر من المعتاد وقوفاً خلف صفوف الجنود. أنزعج كالعادة من الهتاف ضد الرأسمالية والعولمة في الوقت الخطأ. أسأل عن منال التي بقيت في البيت لإدارة الموقع وبعض المهام الأخرى. الدكتورة ليلى تبدو متماسكة أيضاً. الأستاذ أحمد سيف يتحدث عن علاء وعن باقي المعتقلين على السواء. أتذكر دعابة بيني وبين علاء حين كنت أقول له: "من مميزات معرفتك إنك بتحطني في مواقف بالكامل جديدة علي". كنت أضحك. موقف آخر جديد علي، طرف فيه علاء. صديق قضيت الوقت في بيته والآن هو في محبسه بينما أمه التي طلبت من الضباط اعتقالها معه في الصباح وأباه الناشط السياسي الذي تعرض للاعتقال سابقاً متماسكين يتعاملان مع الموقف كأن كل المعتقلين علاء.

أجلس على الأرض بجوار ألِف بينما يحاول تصميم اللافتة التي ستوضع دعماً لعلاء. نفاضل بين المواقف المختلفة لعلاء في الصور المتاحة: علاء مهندس الكمبيوتر


أم علاء الانسان مداعباً أماني طفلة الشارع،


أم علاء يخرج لسانه لأمن الدولة

وصورة شاعرية جداً لعلاء على النيل تحت أضواء القاهرة في الليل.

يستبعد ألِف صوراً غير واضحة وصور أخرى لا تصلح، نستعرض في الطريق الأخبار التي نشرت عن الاعتقالات.

وينتهي اختيار ألف للصورة الرائعة لمنال وعلاء معاً وعليها كلمات: "خلوا علاء يرجع لمنال". يبدع ألِف كالعادة


أمام نيابة أمن الدولة الساعة الثانية عشر ليلاً، بعض رفقاء المعتقلين وبعض من عائلاتهم. المحامين في الداخل معهم. والدة احدى المعتقلات تبكي على الرصيف. الموقف كله يتأرجح بين البكاء والفكاهة والثبات وادعاء الثبات. على الكمبيوتر المحمول لمحمد سمير أشاهد صور جديدة لعلاء، أوضح بكثير من تلك التي كنا نبحث فيها ألِف وأنا.

الشارع محاط بالكامل بالحواجز المعدنية الخاصة بالمرور. فجأة تظهر فتاة أنيقة داخل سيارة تحاول عبور الشارع. تخرج من السيارة وتطلب من الجنود أن يفسحوا الطريق لها لتمر، ينظر الجنود لها باستغراب. تتحدث بتحد مع ضابط. تقرر إيقاف السيارة في شارع آخر وتعود على قدميها لتحاضر الجنود وضباط حديثو الرتب حول خطأ ما يفعلونه. تخبرهم إنهم بهذا الشكل يشجعونها على الوقوف معنا. أحد الضباط المسئولين في ملابس مدنية يسألها عما تريد وإن كانت قد نجحت في ركن سيارتها. نجيبه نحن إنها تسأل عن أسباب احتلالهم للشارع. ضابط برتبة نقيب يبدو صغير السن (رتبة النقيب تسمى حالياً "جراج الضباط" إذ يبقى فيها الضابط في الظروف الطبيعية حوالي اثنتي عشرة عاماً)، يقول للفتاة الأنيقة: "انتوا إللي بتضطرونا نعمل كدة عشان بتجروا على الناس" أو شيء من هذا القبيل. أدير وجهي الناحية الأخرى وأتسائل: "جاي مع مين بتاع انتوا إللي بتضطرونا تعملوا كدة ده؟". رغم ذلك يدهشني فارق المعاملة من الضباط حول المحكمة مقابل المعاملة في المظاهرات وكلمات: سامي سيدهم: "لو ما اتربتوش مالكوش عندي غير كعب الجزمة القديمة" تدوي في أذني. أنظر إليهم فأتسائل – لأسباب شخصية بحتة هذه المرة – هل هم حقاً مختلفون عن أولئك الذين يحيطون بالمظاهرات أم إنهم فقط ليسوا "مأمورين" بقمعنا في هذه اللحظة بالذات. أحار في الإجابة.

يخرج المحامون ومعهم الأستاذ أحمد سيف والد علاء الناشط اليساري القديم ويخبروننا بما هو متوقع: خمسة عشر يوماً بعد أن رفض المعتقلون التحقيق معهم وطلبوا انتداب قاضي تحقيق لضمان حياده طبقاً لنصيحة المحامون. يخبروننا أيضاً بما هو غير متوقع: حالتهم المعنوية مرتفعة وكلهم بخير. منال مازالت في الداخل تحاول رؤية علاء ولو لدقائق. يسمح حاجز الأمن للأم والأب الملتاعين بالمرور بالرغم من رفض ابنتهم الزيارة. ويا ليتهم ما سمحوا لهم بالمرور تعدياً على حق معتقلة في رفض الزيارة.

فور أن نرى بداية الترحيل إيذاناً بخروجهم نجري إلى الباب الذي يخرجون منه ونبدأ في الهتاف بأسمائهم "فاااااااااااااادي، أسماااااااء، علااااااااااااااااااء .....". يرفع بعضهم أيديه بعلامة النصر ويهتفون: "يسقط يسقط حسني مبارك"، نبادلهم الهتاف والتصفيق "حرية حرية". يحدث ما لم يكن في الحسبان. يبدأ والدي المعتقلة في الصراخ فينا وسبابنا حين يشاهدوننا نهتف: "ما تضيعوهمش معاكوا، انتوا السبب"، "يخرب بيت أهاليكوا يا صيع" وينتهي "بحسبنا الله ونعم الوكيل فيكم". تصرخ فيهم فتاة: "فيهم مش فينا". أتخيل حالة ابنتهم المعتقلة بينما تختزن هذا المشهد كمشهد أخير قبل دخول التجربة الصعبة الجديدة. تامر وجيه يمنعنا من الرد عليهم ويقول بينما تتحرك سيارة الترحيلات بالهتافات داخلها: "يسقط يسقط حسني مبارك" "خلاص يا جماعة، خلاص كفاية". يتجمع الجنود ومجموعة ضباط تحسباً لأي احتكاك. تنتظرني مفاجأة أخرى بشأن الفتاة لاحقا. نحاول العبور للجهة الأخرى لمشاهدة سيارة الترحيلات التي توقعنا أن تذهب بهم لطرة فيكون عليها العودة من الاتجاه الآخر. يعبر معنا ضباط ولا يحتكون بنا. نكتشف إن سيارة الترحيلات لن تسير من ذلك الطريق، ربما بسبب عبورنا. يتحرك الضباط والجنود عائدين فنفهم إن السيارة لن تعبر من هناك فعلاً. جميلة اسماعيل المتواجدة تخبرنا بإنهم ربما سيعبرون من الميدان فنجري لعلنا نراهم مرة أخرى. نجري إلى سيارة على ومنال بداخلها لنحاول تتبعهم، ننتظر كثيراً ولا يمر أحد. نكتشف السبب في اليوم التالي، إنهم قد رَحِلوا لقسم الخليفة ليقضوا فيه الليلة ومعظم اليوم قبل ترحيل الفتيان إلى طرة المحكوم والفتيات إلى سجن النساء بالقناطر. إحباط جديد. تطلب مني منال المبيت معها فنذهب بسيارة على ومعنا شقيقة علاء التي تبدو في حالة معنوية مرتفعة. في السيارة نحكي لمنال عما حدث من والدي زميلتنا المعتقلة فتفاجئنا إنهم حين دخلوا إليها في النيابة أشبعوها تقريعاً وتهديداً بما سيفعلونه بها بعد أن تخرج. أشعر بغضب خانق وأتبرم من تلك العلاقة الأنانية التي تربط الأهل بأبنائهم. أتخيل حال الفتاة بينما يعايرها أباها وأمها بإنها "فضحتهم"، تحاول الموجودات تشجيع الأم والأب بتذكيرهم إن اعتقال ابنتهم إنما "يشرفها". رغماً عني تتداخل في ذهني معاني "الشرف". أعلن غضبي في السيارة حين تخبرني منال بإن الفتاة بعد أن كانت في حالة معنوية مرتفعة مع زملائها وهي على السلالم ساءت حالتها جداً. تدور بذهني حيرتي المستمرة بشأن تلك العلاقة التي يتورط فيها كل البشر: البنوة. تخبرنا منال إنها لم تستطع مقابلة علاء إلا لدقيقتين فحسب.

في بيت علاء ومنال لدى منال مهمة الوصول لصور للمعتقلين لنشرها في الدستور. نمر على كل صور المظاهرات التي جرت في العام ونصف الماضيين. أتعجب كيف انخفض عددنا من مئات إلى أربعة عشر وخمسة عشر متظاهراً. أجزع قليلاً حين تمر صور علاء، خاصة صوره خارج المظاهرات ضاحكاً أو شقياً كعادته. تبدأ منال في مراجعة التعليقات التي تصل لموقع منال وعلاء. أشاهد جزعاً وشبه دمعة على وجهها حين تقرأ تعليقاً لأحد السفلة وتسألني أتضعه أم لا. أقول لها إن دناءته ستشجع الآخرين على الرد عليه. أسأل منال كل حين عن حالها وإعجابي بشجاعتها. تخبرني إنها لا تظنها شجاعة بقدر ما تظن إنها لم تستوعب ما حدث بعد، وإن أقصى مدة بقيتها بعيداً عن علاء هي ثلاثة أسابيع وكانت حدثاً بالنسبة لهما وكانت قبل أن يتزوجا. تؤجل النوم حتى تنتهي من مهامها على الحاسوب. العشاء والشاي بلبن "المخصوص" الذي تعده منال لنفسها ولا يستطيع أحد اعداده لها.

بعد تأجيل نقرر دخول الفراش، أسألها في أي جهة تنام عادة. أنظر إلى وجهها في الظلام وأتمنى ألا يحاول عقلها الذهاب إلى حيث الحبيب. بعض الوقت واستنتج من انتظام تنفسها إنها نامت، بينما أنا كالعادة لا أنام سريعاً. ولإنني أتقلب في الفراش أكثر من سيد حصالة بكثير أقرر استعمال الأريكة في الصالة خوفاً من إيقاظها وحرمانها من ساعتي نوم لا نعرف متى ستستطيع الحصول على غيرهم.

منال كما عرفتها شخص سعيد الروح. ليست مرحة فحسب، إنما تبدو دائماً غير حاملة للهم، كإن روحها غير قابلة لحمل الهموم حتى لو أرادت. ربما لذلك مازالت صامدة وتتصرف بشكل عملي حقيقي يساعد علاء الذي نعرف كلنا قوة علاقتها به. نوع من القوة أظنه نادر. روحها خفيفة وصعب إزعاجها. أتعجب مما استطاعت أن تنجزه لمساعدة علاء في يوم واحد كان توقعي أن تكون محطمة فيه. نوع من القوة أكاد أحسدها عليه. نحاول أن نقنعها في اليوم التالي ألا تبقى وحدها في البيت ولكنها تصمم إن حياتها لابد أن تسير بشكل طبيعي. تضحك معنا أحياناً حين نضحك.

على الأريكة لا أستطيع الكف عن التفكير فيهم بينما تصر القطيطات الصغيرة المولودة حديثاً على اللعب في غطاء الفراش الواقع بين رجلي والتمرغ فيه. لست قلقة على علاء بقدر ما أنا حزينة أن يضطر للمرور بموقف صعب. أتذكره حين قال: "لازم لما الواحد يبقى له عمل سياسي يبقى مستعد إنه هيتحبس ويضرب ويغتصب". دائماً ما يناقش الأمور من وجهة نظر عملية. حار في المناقشة. قبل يومين كنا نجلس هادئين في منزله فخرج من الغرفة ضاحكاً: "ناقشيني في أي حاجة عشان أتخانق معاكي". كثيراً ما تتطور مناقشاتنا لمعارك حامية. لا يستطيع أن يعيش بلا قضية.

عرفته صريحاً إلى حد الوجع، طيباً جداً على عكس ما يظنه من لا يعرفه، بسيطاً وتلقائياً. قادر على التركيز في المناقشة بشكل مزعج إذ لابد أن تشحذ كل قدراتك الذهنية لمناقشته ولا تتوقع أبداً إنك في نزال سهل إذا قررت النقاش معه. حنون على القطط التي تملأ منزله. ينهرنا حين نخبره إن القطط تستطيع العيش في الشارع حيث إن إحدى قططه ذات عين واحدة قائلاً: "هتبقى في خطر لإنها مش شايفة نص الدنيا". عرفته نزيهاً ليس لديه ما يخفيه. انسان غني وليس مجرد عابر في الطريق. قبل أيام في مظاهرة يقول: "أنا بأحب مدونات بنات المنصورة وإي زي وزبيدة – البنات المبدعين يعني" ثم ناظراً إلي كأنه تذكر: "وانت طبعاً يا باشا". قبل اختطافه بيوم أقضي أمسية مع مجموعة من المدونين من بينهم علاء. يتطرق الموضوع في السيارة لقائمة كنت أكتبها لـ "خمسون شيئاً سأفعلها قبل أن أموت". نتضاحك و أقول له لن أخبرك إذن بواحدة من الأشياء التي كتبتها فيها. يشجعني قائلاً: "قولي ولو حاجة أبيحة مش هأذلك بيها". أخبره إن القائمة ليس بها "أي حاجة أبيحة". فيضحك: "قبط، شغل كفاتسة، كاتبة خمسين حاجة مافيهمش حاجة أبيحة؟". يضحك مصطفى حسين بدوره: "مش كفاتسة يا عم هما الستات كدة، ممكن يكتبوا خمسين حاجة مافهمش ولا حاجة أبيحة". نضحك كلنا.

عرفته نشطاً يفعل كل شيء بحماس: العمل واللعب والعراك. ضحكته مميزة ورنانة. لا أخشى عليه من الحبس وأتوقع أن يخرج أقوى مما دخل. يشاهد أخي قلقي فيذكرني بهذه الحقيقة: "سيخرجون أقوى مما دخلوا، وأقدر على الفعل مما دخلوا"

علاء يا صديقي: نحن في انتظارك. سندخل بيتك قريباً وأنت فيه.

أتخيلك ستتكيف مع الحبس من اللحظة الأولى وتبدأ في التوعية السياسية للمساجين.

لا أعرف لماذا أتخيلك مستيقظاً بعد نوم عميق في يومك الأول في الحبس حاكاً صدرك متساءلاً: "إيه النظام بقى هنا يا اخوانا؟"

تركت منال اليوم ومحاولات استخراج تصريح الزيارة مستمرة.

خلوا علاء يرجع لمنال

التسميات:

<
eXTReMe Tracker
Office Depot Coupon Codes
Office Depot Coupon Codes