يا مجمع الأحباب
ليس اليوم يومك
بالأمس أمام نيابة أمن الدولة بمصر الجديدة، تبدأ الأخبار في الورود من الداخل حول إفراجات محتملة. الشمس قوية بعض الشيء. تتعلق الأعين بخروج المحامين من الداخل وانتظار لمدة ثلاث ساعات. مع منال نأمل أن نسمع اسم علاء ضمن من أفرج عنهم. يخرج أحد المحامين بقائمة بها ستة أسماء، ليس من بينها "أحمد الدروبي" الذي أشاعوا إنه سيتم الإفراج عنه. شرقاوي من المفرج عنهم. الستة أسماء من أول دفعة تم القبض عليها. نسمع أيضاً أخبار بالإفراج عن فادي إسكندر وكريم الشاعر ممن قبض عليهم في السابع من مايو. الأقارب يقدمون طلبات زيارة في النيابة. منال تذهب لشراء زجاجات "مياه". كلنا نشعر بالعطش. لست أدري كيف في تلك الدقائق القليلة التي ذهبت فيها منال خرج المحامون وأعلنوا إنه تم التجديد خمسة عشر يوماً لكل الباقين بل وخرج المعتقلون في سيارة الترحيلات فعلاً. أهاتف منال بسرعة: "تعالي يا منال، تعالي". الهتاف المعتاد والتصفيق من داخل السيارة وخارجها، نسمع هتاف أسماء. تدخل منال للزيارة وتخرج بخطاب من علاء.
مد حبال الصبر
على عكس المرات السابقة يتوتر الموقف من جهة أمن الدولة، ربما لإن الوقت نهار وهتافنا يستلفت نظر السيارات المارة في الرابعة عصراً. يبدأون في الصراخ فينا وإبعادنا ويخرجوا مجموعة من ذوي الزي المدني فنتوجس تحسباً للضرب ويعلنون إن لديهم أوامر بالقبض على أي شخص!! يصرخون في المحامين لإبعادنا ... ضابط برتبة عقيد أو ما شابه. نعبر لرصيف الترام في المنتصف، لا نعرف إلا متأخراً إن السيارة ستمر من الناحية الأخرى حين نسمع الهتاف. أنظر للخلف فأجد منال تبكي. منى شقيقة علاء ومنال تبكيان على صدر الأستاذ أحمد سيف. والدة أحد المعتقلين على الناحية المقابلة من الشارع تسألني: "أنا ليَ إذن زيارة هأدخل ولا لأ". أخبرها أن تعبر بسرعة لإن الزيارات بدأت في الدخول، ترد: "بس دول طلعولنا بتوع الكاراتيه!". أعبر وأسأل الأستاذ أحمد سيف فيناديها لإنهم كانوا يبحثون عنها عند النداء على أسماء الزائرين.
حيث إفراج لا تعني انفراج
نبدأ في السؤال عمن أفرج عنهم. المعلومات المتاحة هي رحلة تبدأ بطرة ثم أمن الدولة ثم المديرية ثم ... ثم... لا نعرف إن كان "الإفراج الفعلي سيتم في اليوم نفسه أو اليوم التالي. نعرف لاحقاً إنه لن يفرج عنهم قبل اليوم الأحد.
الساعة الخامسة عصر الأحد منال تخبرني إن مكالمة أتتها من "مجهول" تنبئها بخروجهم الليلة من قسم قصر النيل عند منتصف الليل. نستنتج إنهم طلبوا من أحد المجندين الاتصال بها. تخبرني منال إنها تنوي الذهاب لانتظارهم أمام القسم. أنوي الذهاب معها بعد مكافحة الإرهاق المستمر منذ شهر تقريباً والمغري جداً بالبقاء تحت الأغطية واستكمال أربع وعشرين ساعة في نفس المساحة. نقابل صاحب الأشجار قبل الذهاب. يسأل: "فيه مكان إيه بيعمل أكل حلو أربعة وعشرين ساعة ناخد فيه شرقاوي؟" أسأله: "مش يمكن يكون عايز يروح البيت؟" "لو الواحد خارج من السجن يبقى عايز يروح فين؟". حوالي الحادية عشرة تبدأ مكالمات من المحامين تنبئ بخروجهم من أماكن مختلفة: كريم الشاعر من قسم المطرية. فادي على ما نظن من جابر ابن حيان مع عماد. يحتاج عماد لمن ينتظره. تذهب إليه الدكتورة ليلى سويف.
فور وصولنا أمام القسم نشاهد سيارة ترحيلات تدخل الشارع. نستنتج إنهم فيها. فور أن يفتح الباب تنادي منال: "شرقاااوييييي". خمس نزلوا من السيارة بنفس لباس السجن الأبيض، مقيدين "بالكلبشات"، لا نعرف منهم شخصياً سوى شرقاوي الذي يقول شيئاً شبيهاً بـ: "إحنا كويسين" في عجالة. نشاهدهم يصعدون سلم القسم ويبدأ المخبرين والصولات في إبعادنا عن الباب. محاميهم معنا. "عشر دقائق وهيخلصوا"، لا أذكر صاحب العبارة. نتأمل المنتظرين على الرصيف حولنا لأقارب أو معارف ما داخل القسم. كهل في جلباب يتمتم شيئاً عن انتظاره منذ الحادية عشر صباحاً. آخرين يفترشون الرصيف أيضاً. نتعب من الوقوف وتجلس منال على الرصيف فنجلس بعدها. يصل محمد طعيمة. نسمع أصوات عالية تبدو وكأنها من داخل القسم فنصغي. طعيمة يتمنى لمنال: "عقبال ما تيجي تستني علاء" نبدأ في القلق بسبب تأخرهم. يخرج المحامي قائلاً: "طلبوا أكل". فنتأكد إن المسألة ستطول. يتطوع أحد أعضاء لجنة الإعاشة بالذهاب لشراء طعام. منال تخمن إنهم لم يأكلوا منذ تحركوا في العاشرة والنصف صباحاً. نتبادل عبارات قصيرة متعجبين من عدم وجود أحد في انتظارهم سوانا. كنا نظن إننا قادمين لاستقبال شرقاوي فحسب، فإذا بنا في استقبال الجميع!! نضحك منال وأنا على نكتة نتاج الساعات الطويلة التي قضيناها سوياً منذ حبس علاء. أشعر إن في داخلها شيئاً ما غير ما تبدي خوفاً على علاء. في لحظة أحس إنها تريد أن تبكي. متلاصقتين على الرصيف أسألها: "إنت كويسة؟". كانت قد صرحت لي بخشيتها: "إنه يحصلهم حاجة في أمن الدولة". أتذكر جملة كتبها علاء في مناقشة سابقة: "قاتل أبويا ما يستاهلش أمن الدولة". ينادوننا من الداخل ليسمحوا لنا برؤيتهم. يتبرم شخص ما في ملابس مدنية على باب القسم: "إيه ده يا متر؟ كل دول؟". كنا أربعة بينما هناك خمسة في الداخل. لم أفهم معنى "كل دول؟"
شرقاوي "الحار" دائماً ... في الثلاجة؟
نفاجأ بإننا نَرشَد إلى ما أظنه "التلاجة" أو حجز المباحث. كإننا تحت الأرض. إضاءة صفراء خافتة وفور أن نصل نَزْكَم برائحة بول. محتملة ولكنني لا أتخيل الوضع في الداخل. "ماشي يا مصر" - كما قال علاء. نعرف إن إفراجاً لن يتم اليوم. ضابط برتبة ملازم يبدو لطيفاً ينادي عليهم ليقابلوننا في الممر الضيق بين السلم وباب الحجز. شرقاوي أمامنا أخيراً. عرفت شرقاوي من المظاهرات. وبضع مرات في النادي اليوناني. حرارته في الهتاف واحمرار وجهه ونفور شرايين رقبته مشهد معتاد لأي من حضر مظاهرة قبلاً. حماسه معدي. أثر فيَ ما يكتبه من السجن. نسلم عليهم ويخبروننا إن الجميع بخير ومعنوياتهم مرتفعة. أميل على شرقاوي من فوق السلم الذي "انحشرت" فيه: "إنت واجع قلبنا بإللي بتكتبه من السجن". نبدو كلنا قريبين من بعضنا جداً في الممر الضيق تحت الدرج والذي يبدو إنه كان ممر يفضي "لقبو" في الفيلا القديمة التي احتلها قسم قصر النيل. الجو خفيف وليس متوتراً. شرقاوي يحكي شيئاً ضاحكاً عن عدم رغبته في الخروج ولو "بضرب المأمور". يبدو شرقاوي جميلاً في تلك اللحظة أكثر منه أي شيء آخر. يبدو إنه من الممكن أن تبدو جميلاً في ممر مظلم تحت درج يفضي إلى قبو معبق برائحة البول النتن، محبوساً بين من لا يؤمن جانبهم، مخذولاً ومعلق المصير.
الصورة لشرقاوي يوم اعتصام 17 مارس. استيقظ في السابعة ليهتف: "حسني بيه صباحك طين ... لسة هتحكم ست سنين"
يبدو الجميع في حالة نفسية جيدة. أفضل منا على أي حال. أسترق النظر إلى الداخل. نساء في الغرفة الخارجية والرجال على ما يبدو في الغرفة الداخلية. يفتح باب حجز الرجال. الكل يبدو عليه الفقر و"الغلب"، على الأقل بالنسبة لمعتقلينا في ملابسهم البيضاء النظيفة وأحذيتهم. بينما ألقي نظرة في الداخل أتذكر تدوينة قديمة لعمرو غربية اسمها كفاية طوارئ. أجزع. عادي. أنا أجزع من أشياء كثيرة. نسأل حمادة عن الامتحانات. لديه امتحان في الغد. وأقاويل عن ذهابهم لمديرية الأمن في الصباح. يحادثون أهلهم وأحباءهم على هواتفنا، يبدأ الضابط الذي يبدو عليه اللطف في استعجالنا. معاملته حتى مع المحابيس الآخرين مختلفة عن معاملة ضابط برتبة ملازم في المباحث. يقول: "انجز يا شرقاوي والله أنا لو حد نزل ليوقفني". نطلب منه خمس دقائق ،يلاحظ شرقاوي متحدثاً على الهاتف فيداعبه: "إنت بتحب يا شرقاوي؟" . أحزمة على الأرض في غرفة الحجز الخارجية. أستنتج إنها أحزمة المحابيس إذ يُخشَى منها في المعارك الطاحنة في الداخل. معاملة "الصولات" للمحابيس تبدو أسوأ. يخبرنا شرقاوي إن الضابط أخبره بشكل ودي إن حبسهم سيستمر ثلاثة أيام. يقولها شرقاوي بشكل تقريري دون جزع أو غضب أو مشاعر سلبية. نخمن: "ربما حتى الخامس والعشرين". أحد المعتقلين يطلب من منال الاتصال بمكتب حزب الغد لإخبارهم بإنه هناك. أفكر كيف سيمكثون ثلاثة أيام في ذلك المكان المُقْبِضْ. يبدو تماسكهم مذهلاً بالنسبة لي. يضحكون وكإنهم هم من يواسوننا. أحدهم يقول: "هنا غير السجن خالص ابقوا افتكرونا". تكفي الرائحة فقط. يخبرنا الضابط بضرورة الذهاب فعلاً. يأتيهم الطعام ونقود من لجنة الإعاشة وسجائر. محمد طعيمة يعطي نقوداً للمجندين. نودعهم بعد أن كنا نبحث عن "مكان بيعمل أكل أربعة وعشرين ساعة عشان ناخد فيه شرقاوي". يهمس شرقاوي في أذني بينما نودعه: "أنا عارف إنك متضايقة وطلعان عينك من ساعة ما اتحبسنا وفيه ظروف بس إحنا هنخرج وكل حاجة هتتحل". لا أعرف إن كان يقصدني أم شخصاً آخر. فأنا طلعان عيني فعلاً وأخباري مع منال ولكنني لا أظنه يعرفها. يبدو تشجيعاً غريباً في الاتجاه المعاكس. أحياناً: "تجري المياه في العالي". سأتذكر أن أسأله إن كان يقصدني أو شخصاً آخر لو أخذناه مكاناً "بيعمل أكل كويس أربعة وعشرين ساعة".
حركة كفاية؟؟؟
نصعد لنقابل "أحمد صلاح" المريض الذي لم يفرج عنه بعد أيضاً. يبدو في حالة جيدة. ضابط برتبة نقيب تبدو عليه السخافة ينادي علينا: "حركة كفاية" بينما نتوجه لأحمد صلاح. أنظر لأربعتنا السائرين في طابور وأسخر في داخلي. أربعة فقط في انتظار خمسة فتيان قضوا شهراً محابيس تحت اسم "كفاية". ثمانية فتيان يقفون في الممر أربعةَ على كل ناحية يبدو عليهم الفقر و"الغلب" مثل زملائهم في الثلاجة: ألا يَحبس سوى الفقراء؟ يبدو أحمد صلاح في حالة معقولة. نطمئن على صحته. يخبرنا بإن صحته تأثرت كثيراً إذ أضرب عن الطعام ثلاثة عشر يوماً. يبدأ الضابط السخيف في الصراخ في أشخاص آخرين والسؤال بآخر مدى حنجرته عن "محمد بيه". لا نمكث مع أحمد أكثر من دقيقتين. ربما يبقى وحده بسبب حالته الصحية في مكان أفضل تهوية من الثلاجة.
خارج القسم يخبرنا المحامون إنهم يتوقعون الإفراج في اليوم التالي وإن الأمر لا يعدو أكثر من "سخافة". يقول أحد المحامين شيئاً عن انشغال رئيس المباحث في قضية قتل أعجزته عن توقيع الإفراجات الليلة. مازالت الرائحة في أنفي.