على باب بنك الدم بالهلال الأحمر علقت لوحات ملونة تزينها عبارات من نوع: "
شكراً، دمك أنقذ حياتي" و"
الدم الآمن مسؤوليتنا جميعاً" إلى آخر هذا الهراء الذي اتضح إنه لا يعني لأحد شيئاً
يسألني رجل في الصالة الخالية: "عايزة مين حضرتك؟"
أخبره إنني أتيت للتبرع، فيطلب مني الانتظار
يأتيني أحد العاملين ويطرق على باب غرفة الادماء ويوارب الباب قليلاً فألاحظ أن أحداً ما يقوم بمسح الغرفة، يقول الرجل لمن بالداخل: "فيه واحدة عايزة تتبرع" فاسمع صوت عاملة النظافة من الداخل: "لأ، ما ينفعش دلوقتي، تيجي بعد يومين"، أتجاهل الأمر تماماً وأظن أنني أخطأت السمع وأنهم بالتأكيد يتحدثون في أمر آخر
يقول العامل أن الغرفة بها ماء على الأرض وعاملة النظافة تمسحها لذلك فهو لا يستطيع سحب دم اليوم، أسأله عن علاقة الماء على الأرض بسحب الدم وعن الغرفة التي ستستغرق يوماً بكامله ليتم مسحها، يقول لي إنه لا يرضى أن أتبرع بالدم بينما الأرض غارقة بالماء، فأرد بأنني لا أهتم، وأرجوه أن يسحب الدم الآن، فيذهب.
تأتيني ممرضة، لتخبرني أنهم لن يستطيعوا سحب الدم لأن الغرفة يتم مسحها وتنظيفها، أخبرها للمرة الثانية أنني لا أهتم، فتقول: "الأودة ريحتها وحشة"، فأقول: "يا ستي وانت زعلانة ليه، بأقولك أنا موافقة اسحبي الدم وخلصيني"
فتصرح تصريحها الهام: "إحنا قالبين الأودة كلها وقافلينها وبتتنضف وتتمسح عشان وزير الصحة جاي كمان يومين، فمش هناخد تبرعات (عشان ما يشتغلوش فيها ويوسخوها غالباً) لحد بعد بكرة"
(ذهول) أقول:
"نعم؟ انتوا معطلين التبرع بالدم يومين كمان (ومين عارف متعطل من قد إيه قبلها) عشان وزير الصحة جاي؟"
لا تعليق منها
"
لا مؤاخذة طز في وزير الصحة، ولما ييجي يا ريت تقوليله يا حضرة وزير الصحة: طز فيك"
تقول: "طيب تعالي بالليل وأنا هآخد منك دم" (شوف إزاي، ما أنا كوسة بقى عاشن بأروح هناك كثير)
أخبرها أنني أسكن بعيداً وأنني بالتأكيد لن أعود بالليل ولا في الغد ولا بعد الغد وأسألها بالغل المناسب:
"قوليلي بقى، في رقبة مين كيس الدم إللي ضاع ده وحد كان محتاجه ويمكن حياته تتوقف عليه؟ (على الأقل كما تقول اللوحات المعلقة على الحائط – هأو)
تسألني باستغراب: "
مين ده إللي محتاج دم؟ إحنا الحمد لله عندنا دم يكفي وزيادة"
هنا كانت المسألة قد انقلبت من الهزل إلى الكوميديا الغامقة، أصرخ فيها:
"مصر إللي بتحتاج ثلاثة مليون كيس دم في السنة، بتجمع منهم مليون لما يبقى ربنا راضي عننا، بقى فيها دم يكفي وزيادة؟ أنت بتتضحكي على مين؟" (يخبرني
أفريكانو في اليوم التالي أنهم لا يقبلون حجز أي مريض في قصر العيني حتى يتبرع أحد له بالدم)
أنصرف، وتنادي عليَ قائلة: "تعالي بعد بكرة وهناخد منك دم"، أرد عليها دون أن أنظر: "ربك يسهل"
(ليست هذه هي الحادثة الأولى من نوعها في الهلال الأحمر، فقد سبق ورفضوا تبرعي بالدم، ذهبت لأتبرع لاحدى قريباتي التي أخبرها الطبيب بعد الجراحة إنها ستحتاج كيس دم لاصابتها بالأنيميا، ولأننا نفس الفصيلة ذهبت لأعطيهم كيس دم، وبعد أخذ وعطاء بين مسؤول المعمل والممرضة أخبرني أن قريبتي لا تحتاج لدم، وبالرغم من تأكيدي له أن الطبيب مر عليها وأنا أزورها وأخبرها أنها ستحتاج لكيس دم، فقد صمم أنها لا تحتاج، فقلت له حسناً، مادمت قد جئت لأتبرع على أي حال فاسحب الدم ، ولو احتاجته كان بها، ولو لم تحتاجه فبالتأكيد ستعطونه لأحد ما ولن تلقونه في القمامة، فرد علي: "لا، تيجي بكرة بقى" - وبالمناسبة احتاجت قريبتي في اليوم التالي كيس دم طبعاً كما قال الطبيب)
أتوجه للدمرداش التي أكره التبرع فيها، أخبر الممرضة أنني أريد التبرع، فتقول: "تذكرة المريض وبطاقتك"، أعلمها أنني لا أتبرع لشخص بعينه، في المقعدين المجاورين امرأة في الخمسين وفتاة في أوائل العشرينات، جاءتا للتبرع للابنة والأخت التي ستجرى جراحة بعد حادثة سيارة، وتلك أصبحت القاعدة، من يحتاج للدم على أقربائه ومعارفه التبرع له – لأنه البنك ماعندهوش دم كفاية
أنسى أن أسأل الطبيب في المعمل إن كان "الدم الفاير" يصلح للتبرع، أم لا