Witty Ticcy Ray
كنت اشتريت كتابا أهديته لنفسي في عيد ميلادي، وكان كتابا بحثت عنه طويلا، عدت إلى بيت لأجد "ي" قد أرسله لي بالبريد السريع .. من مميزات العلاقات الطويلة! عدت لمكتبة ديوان لأستبدله وليس في ذهني كتاب معين فلفت نظري عنوان
The Man Who Mistook His Wife For a Hat
أو: الرجل الذي ظن القبعة زوجته .. أثار في اسم الكتاب إحساس طيب مرده إنني سمعت عنه كلاما طيبا بالرغم من إنني لا أذكر أي شيء من تلك الشهادات ولا أين ولا لماذا ولا حتى موضوع الكتاب، قرأت على الغلاف الخارجي إن كاتبه طبيب وباحث في مجال طب المخ والأعصاب - أوليفر ساكس - وكتب هذا الكتاب كبحث انساني وليس كبحث طبي.
هناك كتب تغير حياتك بعد أن تفتحها .. وهذا الكتاب فكاهي العنوان واحد منها. حذار لو قررت قراءته أن تستهن به أو تظنه كتاب خفيفاً. هو من أصعب ما قرأت. النبأ الجيد إن الكتاب أكد لي ما أعتقده بشأن الطب والأطباء، والمرض والمرضى تساؤلات واسعة حول الروح، وحول مكونات الإنسان وحول الطب الذي يكسر الإنسان لمجموعة من النواقص، وحياة البسطاء وغيرها كثير .. متعة.
ولكن قصة بالذات استوقفتني في الكتاب الفاتن أكثر من غيرها: قصة: "راي"
أو راي الذكي صاحب العراتWitty Ticcy Ray
راي، بطل القصة، كان مصابا منذ الطفولة بمتلازمة حديثة الاكتشاف نسبيا تسمى: توريت
ومتلازمة توريت مرض محير، تتحرك شدته على طيف واسع جدا، ويتميز بما يسمى:
Tics أو "العَرَات" – جمع عَرَة – وهي دفقة من فعل أو أفعال لا إرادية سواء صوتية أو عضلية أو فكرية أو نزوية. وبسبب ذلك فأشهر ما يُعرَف عن مرضى "توريت" هو قيامهم بالصياح بسباب جنسي أو عنيف مثلاً بشكل مفاجئ، وبطريقة تختلف عن شخصياتهم الأصلية، التي قد لا تستعمل تلك الألفاظ مطلقا. ومن الأعراض الأقل ملاحظة أعراض مثل تعبيرات الوجه الغريبة (grimace)، القيام بأفعال بعيدة عن التحفظ الاجتماعي الطبيعي، تقليد الآخرين بشكل فج مثلا لمدة دقائق، النزوع إلى عبور البوابات الدوارة بسرعة كبيرة جيئة وذهابا، اعتمادا على ردة الفعل المتسارعة بسبب توريت. وعلى طيف شدة المرض يتحرك المرضى ما بين أولئك الذين تصيبهم بضع نوبات لثوان في اليوم وما بين من تتكون حياتهم كلها من العَرَات مدمرة قدرتهم على الحركة ناهيك عن العمل أو الدراسة أو التفكير بشكل طبيعي.
راي، بطل القصة الذي شَخَص نفسه بالمرض بعد قراءته لمقال عن توريت وهو في عشرينياته ووصلت رسالته لساكس الطبيب ضمن رسائل كثيرة ممن يشكون في إصابتهم بالمرض الذي وبالرغم من اكتشافه في الربع الأخير من القرن قبل الماضي، لم ينل أي اهتمام يذكر إلا في النصف الأخير من القرن الماضي.
يحول ساكس معظم الرسائل إلى زملاء له ويختار أن يقابل راي. يصف ساكس راي بإنه شديد الذكاء، موهوب موسيقيا كمعظم مرضى توريت، سريع البديهة، عاجز عن الحفاظ على أي وظيفة، ليس بسبب نقص في قدرته إنما بسبب العَرَات المحرجة التي تستوقفه وسط العمل والاجتماعات، عاجز عن الحفاظ على حياته الزوجية بعد أن ضاقت زوجته بألفاظه الفظيعة التي يصرخ بها فيها خاصة أثناء ممارسة الجنس، يضيق بتقلصات عضلاته اللاإرادية، ويعيش معتمدا على عمله كعازف طبل في نهاية الأسبوع، حيث يتحمس الحضور بسبب نوبات "الإبداع" التي تعتريه على الطبل، ناقلة حماسته إليهم، تلك النوبات التي عرف وقتها إنها ليست إلا عَرَة من عَرَات مرضه.
وصف له ساكس العلاج التقليدي وهو "هالدول"، وهو دواء مضاد للناقل العصبي "دوبامين" والذي يظن إنه السبب في تلك النزعات غير المنضبطة للقشرة المخية للتوريتيين، اتضح إن راي حساس بشدة للهادول وبالتالي لم يحتج إلا إلي جرعة ضعيفة للتخلص تماما من عراته.
عاد راي إلى ساكس بعد أسبوع مصابا بكسر في أنفه و سابا إياه و"هالدوله" اللعين. فراي المبدع سريع البديهة تحول إلى شخص بطئ ممل، فقد ما يميزه في العزف على الطبل وفقد بديهته وسط أصدقائه، وحين حاول أن يلعب لعبة "الأبواب الدوارة" لم يقدر إنه فقد ردة الفعل السريعة التورتية فصدمه الباب الدوار في أنفه. كان الأسوأ إنه شعر إن عراته لم تتوقف، إنما أصبحت فحسب "أبطأ"، فأصبحت تقلصات عضلاته تتوقف في منتصفها، فيشعر وكأنه قد تخشب لدقيقة، فكأن العرة تحولت إلى كاتاتونيا.
إلا إن هذا لم يكن فحسب ما أعاد راي للطبيب. عاد راي بفكرة مقلقة قائلا: "ماذا لو كان الطب قادرا على تخليصي من العرات ... فماذا سيبقى فيَ؟ أنا أتكون من عراتي". كان راي المصاب بالتوريت منذ سن الرابعة عاجزا عن تخيل حياة بدون توريت، بل لم يعرف إن كان يريد مثل تلك الحياة.
أوقف الطبيب الهالدول وقضى مع راي ثلاثة أشهر يبحثان شكل الحياة كما يتخيلانها بدون توريت. أي فرص فيها؟ ماذا لديها لتمنح شابا مثل راي تعلم أن يعيش ويستغل ويتعايش مع نوبات توريت. في محاولة مشتركة من الطبيب وراي قاما باستكشاف إمكانيات راي الدفينة في أعمق أعماق الشخصية، تحت القشرة المخية، وبدءا بمحاولة أخرى مع الهالدول.
يصف الطبيب ما حدث بعدها بإنه فاق كل التوقعات، فقد اختفت الأعراض الجانبية للهالدول بالكامل، وبسبب البحث الذاتي الذي قام به الطبيب وراي فقد تعلم الأخير أن يحيا كإنسان آخر، وأن يقدره أصدقاؤه لأسباب أخرى غير سرعة بديهته المبهرة. بقيت لدى راي مشكلة واحدة بعدها: افتقاده للإبداع الذي كان توريت يمنحه إياه. فاتخذ مع طبيبه قرارا "إبداعيا" عاش عليه ما تبقى من حياته.
كان يتعاطى الهالدول طوال أيام العمل وينقطع عنه في إجازة نهاية الأسبوع، يعزف الطبل ويلعب كرة الطاولة بضربات يعجز أي لاعب عن صدها، يتمتع بسرعة بديهته وأفكاره المتسارعة، وردة فعله الجهنمية، ويعود إلى مكتبه أول الأسبوع بخطواته المحسوبة وحركاته العضلية المتحكم فيها بالكامل.
هل نتخيل حياتنا بدون تلك الأمراض الصغيرة أو الكبيرة الساكنة فينا والتي وبلا شك صارت وكونت خيطا ممن نكون؟ يعرف القليلون إن معظم علاجات الاكتئاب المزمن مثلا تجعل الانسان عاجزا عن البكاء، يقول الأطباء بشيء من الاستهتار: "إنها تحيد المشاعر بعض الشيء"، أفيكون الثمن هو التخلص من المشاعر العميقة كلها؟ تترك علاجات مرض "نقص الانتباه وفرط الحركة" مرضاها مسلوبي النشاط يتصرفون كالانسان الآلي، تترك علاجات الاكتئاب ثنائي القطب مرضاها مسلوبي القدرة السابقة على الإبداع والتي تميز دورة الهوس والنشاط في الاكتئاب ثنائي القطب.
"الإصابة بتوريت هي حالة جامحة، كالسكر طوال الوقت. تعاطي الهالدول ممل، يجعلك جادا ومستفيقا وكلتاهما ليستا بحالة حرية. أنتم أيها "الطبيعيون"، يا من تملكون الناقلات العصبية السليمة في الأماكن الصحيحة في الأوقات الصحيحة من أدمغتكم تتوفر لديكم كل المشاعر، وكل أشكال الشعور كل الوقت، الثقل .. الخفة، أيا كان ما يناسب (الموقف). نحن التوريتيون لسنا كذلك: نجبر على الثقل بفعل الهالدول ونجبر على الخفة بفعل توريت. أنتم أحرار ... لديكم التوازن الطبيعي، أما نحن، فعلينا أن نستخلص أقصى استفادة من توازن اصطناعي"
أنهى الطبيب الكاتب قصة راي بكلمات نيتشة:
"لقد قطعت أشكالا كثيرة من الصحة ومازلت أقطع، وبالنسبة للمرض، ألا يداعبنا كلنا إغراء التساؤل إن كنا نستطيع العيش دونه؟ إن الألم العظيم هو المحرر النهائي للروح"
حين يقولون إن نيتشة كان مصابا بالزهري - وهو مرض يؤثر على المخ - أيقصدون إن إبداعه وفكره مرجعه للمرض؟ أم إن المرض أصابه بالجنون فأخرج تلك الأفكار المعتوهة؟
أي جزء منا ندرك إن مرجعه نواقصنا أو أمراضنا ونعلن استعدادنا للاستغناء عنه مع أمراضنا الملعونة تلك؟
ماذا أردت أن أقول ... لا أدري تحديدا.
-----------------------------------------------------------------------------------
* أوليفر ساكس هو الكاتب الأصلي والطبيب بطل قصة AWAKENINGS أو "الانتباه" - كتابه الأشهر - والتي تحولت لفلم سينمائي بنفس الاسم بطولة روبرت دي نيرو وروبين ويليامز . المرض المذكور في الفلم هو وباء "مرض النوم" أو "SLEEPING SICKNESS" المعروف علميا باسم ENCEPHELITIS LETHARGICA